رواية قناديل البحر تجسيد للواقع السيناوي 

 

رواية “قناديل البحر”: تجسد الواقع السيناوي للكاتب إبراهيم عبدالمجيد 

شاطئ العريش الجميل بشمال سيناء يبهر المتلقي  .

 

حوار : حسن غريب 

قليلاً ما نجد كاتباً يحدثنا عما يقع خلف الكتابة، أو تحتها. والكاتب غالبًا على حق فَنِّيًّا، فسبب كتابة القصة أو القصيدة، يفسدها بالتأكيد إذا تسلل إليها. لكن تظل معرفة ذلك عملاً هاماً وكتابة فنية أيضًا مطلوبة ومفيدة، ليس للدرس، ولا لتنوير السادة الباحثين والنقاد فقط، ولكن أيضًا لنفض الجراب كله، لاستخلاص الراحة حتى الثمالة. الفن إشباع حَقًّا وتفريغ أيضًا لشحنات من الشجن السحري. كيف حَقًّا نطلق كل هذا الشجن على الورق ونحتفظ بالسبب؟ بالتأكيد تأخذ الكتابة، في تضاعيفها وظلالها، مثيرها معها، لكن يظل منها مسحة، أو قرار، أو لحظة مفعمة بالزمن!

لقد كتبت، مرة، أن سبب كتابتي لقصة قصيرة بعنوان “كلمات متقاطعة” هو اختطاف الطائرات الأمريكية لطائرة الركاب المصرية التي كانت تحمل فدائيين فلسطينيين فوق البحر المتوسط، وقصة “الكلمات المتقاطعة” خالية من كل ما يشير إلى ذلك، من قريب أو بعيد – يمكنك طبعًا الاطلاع على هذه القصة في مجموعتي “إغلاق النوافذ” – وقلت أيضًا إن سبب كتابة قصة “الجدار” – المنشورة في إبداع منذ سنوات وسوف تضمها مجموعة قصصية قريبًا- هو أني رأيت صورة أحد الرؤساء الذين يتحدثون كثيرًا عن الديموقراطية ويسجنون البلاد. وليس في قصة “الجدار” أي إشارة لذلك، إنها قصة رجل تحاصره الجدران في كل شارع يمشي فيه. وأستطيع طبعًا أن أحدثك عن كثير مما هو وراء كتابة أعمال لي ولم يظهر فيها، وعما فكرت فيه أو رأيته قبل الشروع في عمل فني كالقصة أو الرواية، أو ما كان موجودًا بالقوة –باصطلاح أرسطو- ثم صار موجودًا بالفعل، جديدًا ومغايرًا. السياسي كما ترى يتحول إلى نفسي، روحي، وجودي، ويمسك بالمطلق عبر صور مادية مباغتة، أندهش حين أقراها، أتساءل في أي مكان في الدماغ، أو القلب، كان موجودًا هذا كله.. الإبداع عملية معقدة حَقًّا وجميلة.

 

 

قررت الآن أن أتحرر أوسع الحلقة الحديدية حول عنقي ولو قليلاً. لا تسألني عن الوقت الذي ترددت فيه قبل أن أقرر ذلك فهو طويل. كيف حَقًّا أناوئ التراث الموروث وَالْمُورِث لنا. الكاتب آخر من يستطيع أن يتحدث عن تجربته، أو آخر من يفهمها. طيّب. ليكن. لكنه يفهم ما حولها وما قبلها وما بعدها أيضًا فهل يمتنع عن الخوض فيه؟ لا أظن. الكاتب فقط، من الإرهاب التراثي، يتصور أنه ممنوعًا من الكلام. لاحظ أن المبدعين المصريين منذ الستينيات قليلو الإنتاج من ناحية الكم، فبعد ربع قرن أو أكثر تجد المشاهير منهم لم يتجاوزوا خمسة كتب صغيرة الحجم. هل تعرف السبب؟ طبعًا سيدخل الحديث عن الظروف الاجتماعية والسياسية، ولن يتحدث أحد بالطبع عن الإفلاس أبدًا، وكما لن يتحدث أحد عن الإرهاب الضمني الذي سببته المقولة الرائجة في الستينيات، وحتى الآن، وهي أن الكاتب يحتاج إلى سنوات طويلة لكتابة رواية جيدة، وإلى أكثر من عام لكتابة قصة قصيرة. أخذت هذه المقولة شكل المطلق. وبعض الكتّاب ظلوا سنوات بلا كتابة ثم اعتبر ما كتبه بعد ذلك إنتاج كل السنوات السابقة. ثم الخضوع لهذا المطلق الذي اخترعه الكتّاب أنفسهم، وتأخرت كتابات كثيرة، وضاعت حقيقة أن العملية الإبداعية نسبية إلى أقصى درجة بقدر ما هي شخصية إلى أقصى درجة. وهناك أعمال قد تكتب في سنوات وأعمال قد تتفوق عليها أو تضارعها قد كتبت في شهور، لأن العبرة بالامتلاء والموهبة، امتلاء الكاتب بالتجربة وعمق موهبته. رغم أن الدقة مطلوبة والتأني أيضًا.

 

منذ الستينيات راجت فكرة أن القارئ لم يعد قادرًا على قراءة الروايات كبيرة الحجم، وأن الرواية القصيرة، أو القصة الطويلة، أو النوفيللا –تخلصًا من هلاك المصطلحات- هي أنسب الأشكال. روّج لهذه المسألة في البداية معلمنا نجيب محفوظ بعد أن كتب “اللص والكلاب” ودخل مرحلة رواياته الفلسفية –هل لم تكن هناك فلسفة في رواياته السابقة؟ -. صدّق النقاد نجيب محفوظ –كالعادة- وصدقه أيضًا كثير من الكتّاب، وساعدهم درس يحيي حقي في انتقاء اللغة، ولم يحاول إلا القليل كتابة روايات كبيرة الحجم، والحقيقة ليست كذلك ولا عكس ذلك. الحقيقة نسبية. يمكن جِدًّا لعمل كبير أن يقرأه القارئ أسرع من عمل صغير. إذا كان الأول ممتعًا، والثاني سمجًا ثقيلاً..

نحن إذن نقول الرأي ثم نحوله إلى قانون نسجن أنفسنا فيه داخله ويتحول إلى تراث إرهابي. هل طال كلامي؟ هل صرت مفهومًا؟ لابد أنك مستعد الآن لبوحي لك بما هو قبل وبعد كتابة روايتي التي بين يديك.

“قناديل البحر” رواية قصيرة كتبتها في عام صعب، هو عام حرب الخليج. قفزت إلى روحي الرغبة في كتابتها خلال قضاء أسبوع على شاطئ العريش الجميل في شهر أغسطس من العام المشار إليه. وتمكنت مني الرغبة بعد عودتي وقراءتي لروايتين جميلتين لكاتبين عربيين. الأولى “المجوس” للكاتب الليبي إبراهيم الكوني والثانية هي “الريش” للشاعر والروائي الكردي –الذي يكتب بالعربية- سليم بركات.

 

لا علاقة بين العملين المشار إليهما وهذه الرواية. لكن هذين العملين، ورحلة العريش، كانت بلسمًا حَقِيقِيًّا بعد حرب الخليج التي أصابتني بكره شديد لكل مكان ممكن وكل زمان محتمل. لقد عشت ورأيت تبخر الأحلام التي كبرنا عليها. حلم الاشتراكية وحلم العروبة وكل ما يتنوع عليهما. صرت أحتاج وقتًا لأتواءم مع الوقت. هنا طبعًا من يستطيع بسرعة تغيير جلده وفتح صدره لكل جديد سواء كان هذا الجديد نبتًا للهزيمة أو للانتصار، لكنني لست من هذا النوع، ولا أظن أن مبدعًا حَقِيقِيًّا يستطيع بسرعة أن يتخلص من قناعاته، لأن قناعات الفنان غالبًا ما تمتزج بالقلب. بل هي دائمًا ما تفعل ذلك. كنت أحتاج وقتًا لأتواءم مع الوقت. “المجوس” والريش ورحلة العريش أعادت لي الشعور بأن النجاة في الكتابة. ذكرتني بذلك، وهو أمر لم يغب عني من قبل، وطالما قلت في أحاديثي إنني منذ السبعينيات وجدت أن الكتابة وحدها هي التي تساعدني على البقاء حَيًّا. إن تكتب يعني أنك موجود. أو شئت فأنا أكتب إذن أنا موجود، وبالفرنسية إذا أحببت أيضًا: “j’ecris dorc je suis

لكن اسمح لي أن أضيف إلى ذلك أمرًا قد يبدو تافهًا، لكنه عميق إلى الدرجة التي أثارني فيها غاية الإثارة.. لقد وجدت نفسي أسمع لحنًا جميلاً انساب بعده صوت عبد الوهاب يغني بإحساس العاشق الحقيقي قصيدة “قالت” للشاعر العباسي الشهير صفي الدين اَلْحُلِيّ، المنسوب إلى مدينة الحلّة، التي هي بابل، ومدينة عشتار وتموز الراعي، والتي كنت أزورها دائمًا كلما زرت العراق مع الوفود العربية وكان دائمًا معنا ضمن الوفود أدباء من الكويت كبار ومشاهير وأدباء من كل مكان، وأدركت وأنا أستمع لعبد الوهاب أننا قد ابتعدنا كثيرًا عن كل شيء، وأنه لا سبيل لرؤية الكتّاب والأدباء الذين كنّا نراهم في بغداد والحلّة والبصرة والموصل من كل البلاد. للمدن العراقية رائحة لا علاقة لها بالنظام الحاكم، رائحة الحضارة الآشورية والبابلية والعربية، وتلك الرائحة هي التي كانت مقصودة بالضرب ولم يكن مقصودًا ضرب النظام الحاكم.. لقد أذيعت أسرار العملية كلها والتفاصيل الجهنمية لما جرى منذ اَلْأَسَابِيع السابقة على الغزو العراقي حتى تحرير الكويت، لقد كتبت مرة في مجلة الهلال أنه يخيل لي أن الهدف مما حدث ألا يجد الأدباء العرب مكانًا يجتمعون فيه على اختلاف اتجاهاتهم، أو مكانًا يضحكون فيه بعض ليالٍ يستعدوا بعدها لعام من الآلام!!

 

لقد استمعت إلى أغنية “قالت” البديعة وطريقة عبد الوهاب في إيصال الإحساس الدرامي في السؤال والجواب، ودخلت غرفتي وبكيت بكاءً مُرًّا.

عدت إذن للكتابة في محاولة للوجود من جديد. وبالمناسبة الوجود الذي أعنيه بسيط للغاية. هو أن يمر بي اليوم هادئًا، أنام وأصحو لأبدأ يومًا آخر هادئًا. هل ترى إذن أن يمكن تحقيق هذا الوجود بسهولة؟ لا أظن. إن يمر بهدوء هدف كبير في عصرنا.

انتهيت من هذه الرواية القصيرة في شهر مايو 1992 وكنت بدأتها في نهاية أغسطس 1991. وبالمناسبة أنا أميل للاصطلاح رواية قصيرة أكثر من اصطلاح قصة طويلة على هذا الفن البديع الذي يتوسط القصة والرواية. فالرواية القصيرة تعبير يوحي بالتكثيف والدقة بينما القصة الطويلة توحي بالإطناب والإطالة.. قلت إنني انتهيت من الرواية في شهر مايو 1992. ثم سلمتها إلى الشاعر أحمد الشهاوي سكرتير تحرير مجلة نصف الدنيا بعد ذلك بشهرين، أي في يوليو وأغسطس. وقال لي إنها ستنشر بعد شهرين أو ثلاثة من استلامها حيث هناك بعض القصص القصيرة الموجودة بالمجلات لعدد من الكتّاب من الضروري الانتهاء منها قبل الشروع في نشر رواية مسلسلة. وجدت الأمر معقولاً وانتظرت حتى وقع الزلزال الرهيب في مصر يوم الإثنين 12 أكتوبر ثم بدأ نشر الرواية يوم الأحد التالي 18 أكتوبر عام 1992.

كان عليّ في ذلك اليوم أن أذهب إلى المجلة لمراجعة بروفات الحلقة الثانية، ووجدت أمامي ما لم يخطر لي ببال.

وجدت مونولوج قصيرًا يتردد في روح البطل، ناجي، وهو يتذكر زيارته في العام الماضي لبلدة ومصيف مرسى مطروح، ووجدت في هذا المونولوج إحساسًا مبكرًا بالزلزال الذي وقع يوم الإثنين، وفيه بالنص كلمات جيولوجية “ستحدث حركات تكوينية… إلخ”. من هذا المونولوج يرى البطل ناجي، ذهابه إلى المصيف في مرسى مطروح كأنما هو ذهاب الفيلة إلى محطتها الأخيرة، موتها، وفي المونولوج صورة درامية / تراجيدية قاسية لم أقصدها بالطبع حين كتبت، وهذا هو ما أرهق روحي حين قرأته. لم أكن منتبهًا إليه، وتساءلت كيف انطلق حَقًّا كل هذا الحزن. ارتبكت بشدة، وكنت مرتبكًا في الأصل بسبب ما وقع للبلاد من أثر الزلزال، ومن حالة الترقب الفزع التي سادت الناس والبيوت، ومنهم بيتي طبعًا، وبسبب التوابع التي استمرت لأيام. كان الرعب من انهيار المنزل أو تصدعه رابضًا في دماغ الناس جميعًا. وأنا واحد من الناس. هل من الممكن حَقًّا الخروج إلى الشارع –إذا قدر لنا النجاة- والبحث من جديد عن شقة بعد أن كنت نسيت ذلك من زمان! أضف إلى ذلك نكبة صديقي الناقد عبد الرحمن أبو عوف الذين تصدع بيته وكان يحدثني كل يوم متوترًا متألمًا وكنت أنا أيضًا أحدثه حتى أهون عليه. ومن ثم لم أجد أي فرصة للابتعاد عن مناخ الزلزال وتوابعه. ثم قرأت الحلقة الثانية من الرواية لأجد فيها الاستبصار بالزلزال فركبني الحزن، وخفت –حَقًّا- أن تمتد الرؤيا فتحدث براكين كما جاء في المونولوج المباغت المخيف لناجي بطل قصتنا.

 

لقد تحدثت في ذلك مع أكثر من شخص، وأحسست بعدم قدرتي على الكتابة. شملني خوف من الكتابة، وتذكرت مواقف أخرى مشابهة في أعمال سابقة نادرًا ما تحدثت عنها. منها موقف الصبي “علي” في رواية “المسافات” حينما مشى في الخلاء يقذف بالأحجار التي يتمنى ألا تسقط على الأرض قبل أن يراها الناس تمر بالبلاد لعشرات السنين ويتساءلون عنها فيقول العارفون إنها “حجر علي ألقاه منذ عشرين سنة ولم ينزل بعد” وهكذا تتوالى صورة الحجر الطائر / الخالد عبر السنين. المسافات رواية انتهت كتابتها عام 1980 ونشرت عام 1982 لأول مرة.

كذلك هناك حوار واضح محدد في رواية بيت الياسمين بين شخصيتين يسعى أحدهما دائمًا للسفر إلى الكويت ويمحور حياته حول هذا الهدف فيقول له الآخر “مصير البترول يخلص أو تقوم حرب وتولع الدنيا”.

هكذا بالضبط في رواية منشورة عام 1987. وفي روايتي الأخيرة “البلدة الأخرى” التي انتهيت من كتابتها عام 1988 –والعبرة دائمًا بتاريخ الكتابة - والتي ظلّت عند دار الرئيس للنشر منذ عام 1989 حتى عام 1991 حيث صدرت– في هذه الرواية أكثر من موقف حدث بعد ذلك. الرواية تبدأ بنزول المطار ببلدة تبوك السعودية فيرى البطل طائرة حربية أمريكية وتنتهي بالعودة من نفس المطار ليرى البطل طائرتين بدلاً من واحدة. وفي الرواية حديث للبطل مع أحد اليمنيين حول التسهيلات الممنوحة لليمنيين في المملكة فيقول اليمني “ومن يضمن بقاء الحال؟” ولقد حدث بعد حرب الخليج أن تغير الموقف من اليمنيين تمامًا. وفي الرواية أيضًا فخ منصوب للفلسطيني لم يستطع أبدًا الفكاك منه رغم كل محاولاته حتى تم طرده من البلاد. وهكذا. لقد أدركت ذلك كله بعد أن قرأت تقرير الناقد المعروف الدكتور صبري حافظ لدار النشر حول الرواية، وقال فيه إن بها استبصارًا بحرب الخليج وما جرى فيها من أحداث.

هذا كله لم أنتبه إليه أثناء الكتابة، بل بعدها، حين يكتشفه ناقد أو صحفي جاء يجري معي حوارًا. ولقد قلت في أكثر من حوار حول هذه الظاهرة في أعمالي إنها من نوع الإحساس العميق بالكارثة، فجيلي في اللحظة التي بدأ فيها يدخل في نسيج الحياة الاجتماعية واجهته هزيمة 1967. ومنذ ذلك اليوم وكل شيء يتراجع حول هذا الجيل، ولقد تضايقت مرة من هذا الإحساس العميق بالكارثة الذي يلون الكتابة نفسها، لكن الدكتور شكري عياد في إحدى دراساته –انظر مجلة الهلال عدد يوليو 1990- قال: إن شيئًا مُهِمًّا في شخصيات إبراهيم عبد المجيد في أنها لا تستلم بسهولة، وأن بها عنادًا.. لقد أضاء لي معنى الأمل الذي تمنيت أن يكون في أعمالي، وكان موجودًا ويدركه الناقد الفنان الحصيف.. نفس الأمر أدركه الناقد الكبير الدكتور علي الراعي في دراسته الممتعة عن رواية الصياد واليمام –انظر كتابه الرائع عن الرواية العربية-، والحقيقة أن عددًا كبيرًا من النقاد أدرك هذا الأمل رغم أن ناقدًا كبيرًا مثل الدكتور لويس عوض كان يتهم جيلنا بالانهزامية. لكن المرحوم لويس عوض لم يكن يقرأنا…

في ندوة حول رواية البلدة الأخرى في مؤتمر الرواية الذي أقيم بجامعة القاهرة في بداية عام 1992 تحدث الدكتور جابر عصفور وقال: إننا عندما نصل إلى نهاية رواية البلدة الأخرى ونجد طائرتين أمريكيتين بدلاً من طائرة واحدة نجد أنفسنا مدفوعين لإعادة قراءة الرواية مرة أخرى لفهمها في إطار هذا المعنى الجديد.. لكني أعترف لك أيها القارئ أن كل هذه الإستبصارات لم تكن من تخطيطي، إنما هي كما قلت لك نبت الإحساس الرابض في روحي باستمرار الكارثة. لكننا أبدًا لن ندخل في الممات. هذا أيضًا موجود في روحي وإن كانت طبقته عميقة تظهر على استحياء. لقد قلت لأحد الصحفيين حول الصبي “علي” الذي كان يلقي بأحجار يود لو لم تنزل إنني لم أكن أتنبأ بشيء، ولم أكن أتنبأ بثورة الحجارة بالتحديد، لكن “علي” الصبي يفعل ما يفعله الصبية في الخلاء، وإن كان يبدو متألمًا من استسلام الكبار من حوله لظروفه الصعبة ويود معرفة سبب ما يقع لهم من بلاء. ونفس الشيء قلته الآن لك عن استبصارا تالية بنت الإحساس العميق بالكارثة التي لونت نظرة جيلي منذ 1967، ولقد قلت ذلك في حديث قريب للصحفي الشاب النابه يسري حسّان في مجلة “حريتي” عندما أدرك ما جاء في الحلقة الثانية من هذه الرواية حيث نشرت بمجلة “نصف الدنيا” من استبصار بالزلزال..

 

والآن ما علاقة هذا كله الذي قلته لك بالرواية، لا أعرف، لكنه قد يكون مفيدًا أن نعرف شيئًا عن الظروف التي أحاطت بهذه الرواية قبل كتابتها وبعدها. أما أثناءها فلم يكن هناك إدراك عميق عندي بما أكتب، هكذا جرت العادة، لكني كنت أشعر بأشياء كثيرة كانت في يدي طارت مثل عصافير ملونة واختفت في الفضاء، وبين يديك الرواية قد تعرف منها الطيور التي طارت ولم تعد والطيور التي بقيت في الأرض.