كان حسني رفيق غوار في مسلسل صح النوم يقول "إذا أردنا أن نعرف ماذا يجري في إيطاليا، يجب أن نعرف ماذا يجري في البرازيل" ، هذه المعرفة كانت دلالة رمزية على تشابه ما يجري في طرف من الكرة الأرضية مع ما يجري في الطرف الآخر منها رغم المسافة البعيدة بين الطرفين.

اليوم –وكل يوم- يمكن أن تلاحظ أن ما يجري في أي مكان من هذا العالم هو عين ما يجري في مكان آخر، ذات المقدمات و ذات المصير، لا تتبدل النهايات ولا تُبدع الظروف والأماكن والثقافات أكثر مما تفعله في كل مرة.

كانت قناة ناشيونال جيوغرافيك تعرض جزءاً من وثائقي عن حكايات مأساوية في صحارى أفريقيا أبطالها وحوش تلك الصحارى من أسود وضباع، كانت الحكاية عن أسدٍ فقد مُلكه وعزه وكل شيء في ثمانية عشر يوماً انتهت به جثة تنهشها كلاب كانت يوماً تسلك طرقاً وعرة بعيدة لتجتنب حماه المهيب.

بدأت حكاية الملك المهزوم في يوم صيد عادي ، لا يختلف عن سابقيه بشيء ولم يدر في خلده ولم يمسّ شيئاً من كبريائه أنه سيكون مختلفاً عما يليه أو أنه سيكون نهايةً كما لم يتمنى يوماً أن تكون النهايات.

كعادته، لم يكن دوره يتعدى دور المراقب وقت المعركة مع الفريسة ، وظن أنه لن يتعدى دوره كملك وقت التهامها!

الفريسة كانت ثوراً برياً متوسط الحجم أخطأت اللبوة الصيادة في تقدير غريزة حب البقاء المكنونة فيه، رفض أن يكون لقمة سائغة فكانت مقاومته شرسة ، أخطأ الملك ذاته في تقديرها حتى نالته ضربة حادة من قرن الثور المقاوم جرحت كبريائه قبل أن تجرح رقبته وأسالت مهابته مع الدم الذي سال منه.

الأيام التالية للحادثة كانت مرهقة للقطيع، ملكٌ مريض بالكاد يملك أنفاسه ، وقطيع من الجياع اعتادوا أن ينفذوا ما يخططه هو، لكن الحال لم يدم طويلاً، اقتنص أسدٌ آخر فرصة ضعف الأسد الملك فقرر أن يُملي على القطيع أوامره، انقادوا له كما انقادوا لسلفه، بات ملكاً بين لحظة وضحاها، أحس أن صاحبه بات عبئاً على القطيع فقرر طرده وفعل، سأله الرحيل أو أن يقتله فلا مكان للضعيف المهزوم ، اختار الرحيل لعل في طرف الصحراء قطيعاً ينتظر ملكاً أو رفقة تقبل رفيقاً جديد.

هام على وجهه في الصحراء حتى خارت قواه، كانت كاميرا مصور الفلم الوثائقي تتابعه و كان فريق العمل يُقدّر كم يفقد من قوته المخزونة كل يوم ويتوقع يوم هلاكه إن سارت الأمور على ماهي عليه، مرض وجوع وصحراء لا تنتهي!

في اليوم الثامن عشر بدا أن مخزون طاقته قد نفذ، بدا شبح أسد، بانت عظام صدره وضعفت قوة قوائمه، كان جرحه النازف قد غدا مستوطناً للحشرات التي أغراها عجزه عن ردها، كانت ترتع فيما بقي منه فيما كانت الفرائس السهلة تسايره غير عابئة به وهو أعجز من اقتناصها، كانت حاله مثيرة للأسى والشفقة ولكن من يهتم والصراع صراعٌ للبقاء!

جثته التي لم تبق لها الكلاب أثراً فأتت على اللحم وبعثرت العظام انتهت كأن لم تكن وذكره اختفى كأن لم يبن يوماً.

كان الفيلم مثيراً ومعبراً حدَ العجب كيف أن هذه البهائم  تُطيع لتبقى، تقاتل وتصارع لتبقى، تغدر وتخون لتبقى، تطرد الضعيف لأنه عبء على بقاءها، تستسلم وتنهزم لتبقى، تؤكل ليبقى الآخرون ثم لا تُذكر ولا يبقون، دورة حياة قاسية ، يأكل الضعيف اليوم من كان أضعف منه ذات يوم ويُؤكل هو الآن ويؤكل صاحبه يوماً ما.

لو عاش حسني البورظان لليوم ورأى كيف يأكل البشر بعضهم فلا يبقى لأحدهم ذكرٌ إلا أن يكون رقماً في إحصاء لعدد من ماتوا ، لو عاش ورأى كيف يفتك أحدهم بالآخر لا لأن بقاءه رهن فتكه بالضعيف بل لأنه يمارس البهيمية العبثية وهو إنسان أودعه الله فهماً و مكّن له ما يقيم أوده وبه تستقيم حياته دون أن يأكل من لحم أخيه ودون أن يتسافل إلى ما دون البهائم في أفعاله وممارساته فيغدر ويفجر ويقتل ويرتكب كل موبقٍ ثم باسم ديانة أو حضارة أو فكرة أو عقيدة يخادع نفسه ويخادع الآخرين وهم يخدعونه بتصديقه في دورة خداع مستمر، لو عاش حسني لأبدل إيطاليا والبرازيل في عبارته فصارت " إذا أردنا أن نعرف ماذا في عالم الإنسان، يجب أن نعرف ماذا في عالم الوحوش .. ثم لا نُكبر أن يجري ما هو أفظع"