في زمن ترى فيه العجب العُجاب من افتتان الناس بأشخاصٍ وأفكارٍ وشعارات وممارسات أقل ما توصف به أنها كاذبة ومخادعة واتخاذهم قدوات في العمل والتفكير واتخاذ المواقف، جميلٌ أن تستعرض تجارب بعض القدوات "الفاشلة" ممن اغترّت بهم مجتمعات وشعوب لم تكن تعدم القدوة الصالحة ، لكن خانتها المعايير التي اتبعتها و أسلمها إلى السراب استحسانها وذائقتها غير المنضبطة بمنهجٍ سليم.
فقراءة مثل هذه التجارب واكتشاف ما آلت إليه اختيارات الناس في الصدّ عن "القدوة الحسنة" و ميلها إلى القدوة الفاشلة جهلاً أو اشتباهاً أو اغتراراً بالشعار الذي ترفعه أو تتصور بصورته أو تمارسه، قد يدفع البعض لإعادة النظر فيمن يراهم "أبطالاً أو مفكرين أو مثقفين أو وجهاء أو أو.." ثم يراهم بأقوالهم وأعمالهم قدوات يسير بسيرتهم و يقلدهم في كل مقالة وكل فعل.
قدوة فاشلة / تجربة المجاهدين الأفغان
ذكرها استاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية الدكتور طلال عتريسي في ندوة بعنوان "القدوة – الأهمية وتحولات الدور" نُشرت في كتاب بذات العنوان ، أنقل منها نص كلامه تحت عنوان "القدوة الملتبسة" إذ يقول:
"ولعل من المفيد في هذا المجال ان نذكر "التجربة الأفغانيةً" التي تحول فيها بعض قادة المجاهدين الى البحث عن الثروة والمكانة وً حب الدنيا بعدما كانوا "قدوة الجهاد في أودية افغانستان وجبالها قبل سنوات . وبحسب بعض التقارير، (الحياة 10/9/2009) يتحدث الناس بحسرة عن "ثروات تقدر بمئات الملايين من الدولارات كدسها قادة أحزاب "المجاهدين الذين تصدوا للغزو السوفياتي في ثمانينات القرن العشرين. هؤلاء القادة تحولوا بغالبيتهم الى إقطاعيين جدد، يمتلكون كثيراً من المجمعات السكنية...
وتعتبر ضاحية "وزير أكبر خان أرقى أحياء العاصمة كابول واستولت أحزاب "المجاهدين على منازل الحي أول مرة بعد دخولها كابول عام 1992، علماً ان لهذه المنازل مالكين اصليين يحتفظون بأوراق ملكيتهم القانونية. واستولى أحد قادة "المجاهدين على أكثر من مئة منزل في حي "وزير أكبر خان، إضافة إلى عدد من الفنادق والأسواق التجارية، مع أن هذا القائد لا يكف عن انتقاد الغرب والدول المجاورة لتدخلها في أفغانستان.
ويقدر البعض ثروة قائد آخر لـ "المجاهدين بما لا يقل عن بليون ونصف بليون دولار، علماً بأن هذه الثروة لم تجمع كلها من أموال الجهاد فحسب، بل أيضاً من تجارة الأحجار الكريمة ".
هذه التجربة وما آلت إليه أحوال المجتمع الأفغاني من خراب ودمار وفساد على كل المستويات كان مصيراً محتوماً لمجتمع استجار من الرمضاء بالنار، فانطبق عليه ما قاله الشاعر بشار بن برد:
أعمى يقودُ بصيراً لا أبا لكمُ .. قد ضلَّ من كانت العميان تهديه
وفي مدرسة الإمام الصادق صلوات الله عليه حديث جميلٌ يشترط فيه الإمام شروطاً في شخص من يصلح ليكون قدوة يعظ الناس فينفعهم، يقول عليه السلام: " فإنّ مثل الواعظ والمتعظ كاليقظان والراقد ، فمن استيقظ عن رقدته وغفلته ومخالفاته ومعاصيه ، صلح أن يوقظ غيره من ذلك الرقاد"، أما إن لم يكن كذلك فإنه في أحسن الأحوال لا ينفع الناس، وفي أغلب الأحوال يرديهم ويدخلهم في دهاليز مظلمة ، يقول عليه السلام: " من لم ينسلخ عن هواجسه ، ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها ، ولم يهزم الشيطان ، ولم يدخل في كنف الله وأمان عصمته ، لا يصلح له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة ، فكلّما أظهر أمراً كان حجّة عليه ، ولا ينتفع الناس به".