د. علي بانافع
المعلمون الاوائل هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، والمعلمون اليوم هم ورثة الأنبياء -ان جاز لي التعبير- ففي الحديث الذي رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه وابن حبان في صحيحه وغيرهم، أن النبي ﷺ قال ضمن حديث طويل: {العلماء ورثة الأنبياء}. والله سبحانه وتعالى أرسل الأنبياء ليكونوا للبشرية قدوة -خاصة للمسلمين- {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، ولم يكن من مناهج الأنبياء الدعوة للتوحيد وحسب، بل بعضهم عالج مشاكل قومه التي أصبحت فاشية مستشرية في مجتمعاتهم؛ فقد عالج نبي الله لوط عليه السلام قضية إتيان الذكران من العالمين، والشذوذ الحاصل عند قومه وهي قضية اجتماعية، وعالج نبي الله شعيب عليه السلام قضية التلاعب والغش في الميزان، وعالج نبي الله يوسف عليه السلام تعرض أمة مصر وهي كافرة لقضية المجاعة وهذه قضايا اقتصادية، وفي صحيح البخاري حديث معروف عن نبينا محمد ﷺ، أن قريشا ابطؤوا عن الإسلام فدعا عليهم النبي ﷺ، فأخذتهم سنة حتى هلكوا فيها وأكلوا الميتة والعظام، فجاءه أبو سفيان، فقال: يا محمد جئت تأمر بصلة الرحم وإن قومك هلكوا فادع الله فقرأ: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } [الدخان: 10]، ثم عادوا إلى كفرهم، فنزل قوله تعالى: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَىٰ إِنَّا مُنتَقِمُونَ} [الدخان: 16] يوم بدر، فدعا رسول الله ﷺ فسقوا الغيث فأطبقت عليهم سبعا وشكا الناس كثرة المطر قال ﷺ: اللهم حوالينا ولا علينا فانحدرت السحابة عن رأسه فسقوا الناس حولهم، رغم أن جميع المذكورين لم يكونوا أهل دين وإيمان، لكن المسلم عندما يرى الخطأ أو المُشِكِّلْ لا ينتظر!! المسلم يعالج اخطاء ومشاكل قومه مهما بلغ بهم الانحراف ويقلل من الشرور ..
وكما شاعت واشتهرت أحاديث وهي غير صحيحة وراجت حقبة من الزمن، فهناك أفكار ومناهج تشيع وتنتشر وهي غير صحيحة، يعيش التعليم اليوم على أوهام غير صحيحة انتشرت وأصبح مُسلَّم بها منذ زمن، ومهمتنا غسل أدمغة الناس من هذه الأوهام كي يستعيد التعليم عافيته، لقد أفسد نظام التفكير الحديث مزاج التفكير العام للتعليم كله فتحول التعليم برمته إلى أنشطة، وموهبة، وإبداع، وجوائز، وترويج، ودعاية، وتميز ...الخ، وهذا كله حساب أصالة التعليم وجودة المخرجات، فغاية المعلمين اليوم الفوز بالجوائز ومُنى عين القادة حصد البطولات والشهرة؛ فنحن في زمان أكثر مشاهيره لا يستحقون الشهرة، وهذه جنازة التعليم ويصب كله في تدمير أساس التعليم وهو المعلم، ومحو كرامته والحط من قدره؛ وبانتظار عودة التعليم الرشيد، وليس هذا منهج الأنبياء ولا منهج الإسلام فليس من سُنتنا الانتظار، إن التقليد الأعمى للشرق وللغرب في التعليم بالذات أوردنا المهالك ..
بلاء عريض مقيم مستمر في التعليم، لم يسلم منه شيء، لا المعلم، ولا الطالب، ولا الحجر، ولا الشجر، ولا الماء، ولا الهواء، ولا التربة، سنين شدة شهد فيها التعليم، ويشهد الواناً من العذاب والحزن والألم، فبعض القادة التربويين الطموحين وهم قليل، والأغلب للأسف لا تربويين ومُتسلقين، يحتاجون إلى ترسيخِ الأخلاقِ الإسلامية، والقِيم والمبادئ التي استقيناها من قرآننا وسنة نبينا، والتي توارثناها عن آبائنا وأجدادِنا، نعم من حقِّكَ أن تُظهر تميزك العلمي والتربوي أو الدنيويَّ، إظهَر ولكن بآداب باختيار مفردات التعبير، وانتقاءِ أساليب حُسن الخطاب والتخاطب، فإيصال المعلومةِ والفكر والمهارة إلى المتلقي تحتاج إلى لباقة وحُسن سِياق ولمسات تواضع، وإلاّ كانت فَجاجَة وغِلظة واستعلاء {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. قال ابن المقفع: بالأدب تسمو العقول وتزكو. وقال: ثمار العلم الأدب، وأما ذو الأدب فطالب، وأما من لا أدب له فمختلس أي يختلس مكانًا ليس هو أهلاً له وما أكثَرَهُم في زماننا هذا ..
وهنا موقف للشيخ علي الطنطاوي رحمه الله في ذكرياته، يقول: (لما جئت مكة أُدرِّس في كلية التربية سنة 1384هـ جاء ذكر مسألة فقهية ذكرتُ فيها الحكم في مذهب الإمام أحمد، فقام أحد الطلاب يرد علي بأدب بأن المذهب ليس على هذا وأن المسألة ليست كما ذكرت؛ فأطلت لساني عليه وقلت له: لقد درست اثنتي عشرة سنة حتى وصلت الجامعة وأنت لا تعرف الحكم في المذهب الذي يمشي عليه أكثر الناس في هذه البلاد وكلاماً من أمثال هذا، ما كان لي حق فيه وما كان بيدي مسوغ له، وهو ساكت لا يجيب! فلما رجعت إلى الدار فتحت كتب الفقه الحنبلي، فإذا المسألة كما قال الطالب لا كما قلت أنا؟! أفتدرون ماذا صنعت؟ جئت في الغد فقلت للطالب: أنا أعتذر إليك، لقد كنت أنا المخطىء وأنت المصيب، وأعتذر إليك مرة أخرى لأنك كنت مهذباً ولأنني لم أكن في التهذيب على ما يُطلب من العلماء فسامحني، يقول الشيخ الطنطاوي: هل تظنون أن هذا الموقف نقص احترام الطلاب لي أو تقديرهم إياي؟ لا؛ بل أؤكد لكم أنهم زادوني تقديراً وأنهم استفادوا منه درساً لعله أكبر من الدروس التي تستفاد من الكتب ..).