Image title

علي بانافع

     لا شك أن للدراسة الأكاديمية محاسن إلا أنها محصورة في مواكبة أساليب البحث العلمي، ولا وجود لغيرها مطلقاً على الصعيد العلمي، أما على الصعيد الوظيفي فقد غدت الشهادة جواز المرور نحو المستقبل،ولغة عالمية لمن أراد العمل والتكسب، ولقد مُنيت صناعة التعليم بنَكَساتٍ وتراجعات، فأصابها ما أصاب جميع مجالات الحياة عموماً بمرور الزمن من خُفوت جذوته في قلوب الناس، وضَعْف تأثيره في مناحي حياتهم، وأمّا في عصرنا هذا فقد اتّسع الخرق على الراقع، وفُقِد العلم والعمل معاً، وغاب الشكل والمضمون على حدٍّ سواء، ولم يبق من الشَّكل إلا الرُّتب والمناصب والألقاب؛ فمظاهر الضّعف في التأهيل العِلمي والعَملي في معظم خريجي المدارس والمعاهد لا سيّما الرسمي منها، لا تخفى حتى على أعشى النظر، فلا هم -إلا ما نَدر- متعلمين متقنين، ولا هم صناع ماهرين، وهذا الضّعف في الخرّيجين من الوضوح بمكان حتى إنّه لا ينكره أكثرُ القائمين على التعليم أنفسهم، ولما لاحظوا تفشي شدة الضعف سلَّموا بالواقع فصاروا يتواضعون في أهداف مؤسّساتهم، ورسالتها، فنراهم يصرحون بالقول:

     إنّا لا نخرّج علماء، بل موظّفين لسدّ حاجات المجتمع ...الخ، والطبقة العظمى منهم يقولون: نحن إنّما نعطي مفاتيح العلم، والباقي هو ما لا بدّ للطالب أن ينهض به على عاتقه، ولم يَصْدُقوا في قولهم: «مفاتيح العلم» لأنَّ مناهجهم، في أكثرها، لا تنشئ مَلَكاتٍ ولا تربِّي مهارات، بل تُحمِّل الطلاب نُتَفاً من المحفوظات، وأمّلوا باطلاً، ورَجوا سراباً، إذ توقَّعوا من الطالب أن ينهض بالعلم على عاتقه، لضعف آلته أولاً، ولأنّهم لم يغرسوا فيه، بالقول والعمل، الحرصَ على طلبه، والرغبة فيه، وإيثاره على ما سواه، ثانياً، ولأنّهم -ثالثاً- لم ينزعوا منه، قصدَ التوسُّل به إلى الشهادة والوظيفة، ومن طلب العلم لهذا الغرض قلَّ أن يُفَلِحْ إلا أن يتداركه الله برحمة منه فيعقل غاية العلم وثماره المقصودة وطرق تحصيله.

    وبعد الاستقراء العام للمنهج الدراسي الأكاديمي لعامة المراحل اتضح أن الأسباب الرئيسية لضعف التعليم تتخلص في سببين:

الأول: كون الكادر التدريسي في الأصل خريج نفس المنهج الأكاديمي ففي الأصل الضعف موجود -إلا من كان جامعاً بين الطريقتين- طريقة العلماء في التلقي ثم الأكاديمي.

الثاني: المادة الموضوعة في المنهج، وهذا ينقسم إلى إما تعليم أو تلقين مقارن، أو مذكرات أو ملفات إنجاز  -ما أنزل الله بها من سلطان- يضعها الأساتذة كلاً حسب هواه، وسنناقش كل سبب على حدة في مقالة قادمة إن شاء الله.

   فهذه المثالية المطلقة في طرائق التفكير لدى بعض القادة التربويين آذتنا كثيراً، نحن المعلمين بالذات، وظاهرة تصنيف الأشياء إلى أسود وأبيض في نظرهم هي مشكلة لا تزال تتعب المجتمع المدرسي، لنرجع للقرآن لنرى أين مكان المثاليات:

1- القرآن الكريم يقص علينا في بداية الخليقة قصة ضعف آدم عليه السلام أمام إبليس، ويقص كذلك أن الله عهد إلى آدم ولم يجد له عزما.

2- القرآن الكريم يذكر عبارات النسبية {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ ۚ} [آل عمران: 167]، {زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2]، {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران: 152].

3- بعض الأشياء لم يحددها القرآن الكريم لأنها نسبية لا تنضبط فأعطى عبارات عامة {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ۚ} [النساء: 6]، {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ} [الطلاق: 7].

4- القرآن الكريم يجعل نصر النصارى الروم على المشركين المجوس {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم: 4-5]، ويجعل هناك فرحاً للمؤمنين، مع أن الأصل أن لا نفرح إلا لنصر أهل الدين والإيمان ولكنها نسبية.

5- ولأن الكعبة لابد أن تُحمى نصر الله أهل الشرك من قريش حماة الكعبة على النصارى في حادثة الفيل، من أجل الكعبة، وجعل ذلك عبرة، فالقضية نسبية، وأمثلة ذلك كثيرة ليس هناك محددات مثالية في الإسلام، وتعلم من طريقة التفكير أن لا تكون مثالياً، فالله خلقنا وهو أعلم بنا وبضعفنا {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14]، لذلك على هؤلاء القادة التربويين المثاليين أن لا يلهثوا وراء المفكرين أو الفلاسفة في مثاليتهم، والنظريات التربوية وطنطنتها وليكن القرآن الكريم هو هديهم في طريقة التفكير ..

    فقد ابتلينا بزياراتهم الميدانية، وهم كثيروا السخرية والتهكم بل ويتلفظوا بخشين الألفاظ، وبنوع من التعالي والكِبرْ، يتحدثون عن هذه النظريات، وبكلام غير علمي مصحوب بالسخرية كعادتهم، وهذا أسلوب فج وقح سيء، ودون المستوى، يجب على هؤلاء القادة التربويين أن ينزهوا مهنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، إضافة إلى سخريات أخرى، وكلام لا يليق، المرجو من هؤلاء القادة التربويين أن يرحمونا وألا يحولوا النقاش مع المعلمين إلى جلسات تعذيب فلسفي وفكري لا طائل منه، المرجو أن يتمثلوا الرحمة الإلهية، والرحمة النبوية، والرحمة الإسلامية، في كلامهم عن المعلمين المخالفين لتوجهاتهم، والمرجو أن يتجنبوا السخرية بالغير ..

          ارحموووووووووووووونا