Image title

د. علي بانافع

    أستاذي ومُعلِّمي الخيَّر، منذ دخلنا المدرسة رأينا الكثير من الأعاجيب في الحياة المدرسية، بل قل إن المدرسة كلها كانت أعاجيب بالنسبة لنا، بايجابيّها وسلبيّها، أما أنت فكنتَ بالنسبة لنا أعجوبة الأعاجيب في النُّبل والأخلاق والعمل، لا زلتُ لليوم أذكر حصصك ودروسك المليئة بالعلم الجاد، والذي كنتَ تعرضه علينا بالأساليب الممتعة كالقصة وضرب الأمثال، والإسقاط على الواقع، وبعض النكات أيضاً، لا زلتُ لليوم أذكر كيف كنا جميعاً ننشدّ للدرس، لا ينام أحدٌ منا ولا يملّ، ولا يغفل، إنما هي اليقظة والتركيز والانسجام والحرص على متابعة كل كلمة، استمتاعاً منا بأسلوبك، وايماناً بقيمة ما تقول ليس فقط لامتحاناتنا بل لعموم حياتنا، لا أنسى أبداً احترامكَ الشديد لكل ذي علمٍ أو فضلٍ من السابقين والمعاصرين، الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، الصحابة رضوان الله عليهم، العلماء، الصالحين، أساتذتكَ وشيوخك، وزملاءكَ في المدرسة من أساتذتنا، وحتى ذوي الفضل والعقل من كبار السنّ، ومحاولاتكَ الحثيثة لنقل هذا الاحترام لنا، لا زلتُ أذكر لليوم أنك كنتَ مشهوراً من بين جميع الأساتذة ببعض اللازمات أثناء الدروس، فمثلاً: عندما كنتَ تأخذ فاصلاً لثوانٍ للانتقال لموضوع جديد كنت تتمتم بـ "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" مرتين أو ثلاثة، ومثلاً: كنتَ إذا سألك طالب تستمع حتى النهاية مع أن بعض الطلبة يُطيل شرح سؤاله وهو مفهومٌ من أول كلمتين، وكنتَ تبتدأ اجاباتك بـ "حاضر، على راسي، تكرم، إذا سمحتَ لي ...الخ، وكنتَ في دروسك معروفاً باستخدامكَ كلماتٍ تجذب أذهاننا وقلوبنا كمثل: "أيها النبلاء، وأيها الطيبون، وأبنائي الأحبة، وما شابهها من الكلمات الطيبة التي تُنبئ عن أصلٍ طيب، وخُلقٍ سامٍ، ونفسٍ سمحةٍ متصالحةٍ مع ذاتها.                                     

     وهنا يُسجَّلُ لكَ أنكَ كنتَ حريصاً على عدم احراج أيٍّ من طلبتك أمام البقية، لم تكن تطرد من يأتي متأخراً، وربما لهذا لم يتأخر أحد عن حصصك ودروسك الشيِّقة إلا نادراً جداً!! لم تكن تسفّه أيّ اجابةٍ مغلوطة تصدر من أحدنا إنما فقط تكتفي بالسكوت قليلاً، ثم اعادة طرح السؤال فنفهم أن الاجابة السابقة كانت خطأ!! وإن رأيتَ سلوكاً مزعجاً من أحدهم داخل الحصة لم تكن تحرجه، بل تلمّح ولا تصرّح، فيفهم المخطئ ويغير سلوكه ولا يُحرَج!! مثلاً: أذكر أن طالب في الكراسي الخلفية في الحصة فتح جواله  لِيُري لصديقه الذي بجانبه ظاناً أنكَ لن تنتبه، فإذا بنا نحن نتفاجئ بجملة منكَ دخلت وسط كلامك وشرحك إذ قلت: "ولأني طالب نبيل لا أفتح الجوال في الحصة والأستاذ يتكلم ويشرح" ، بالطبع نحن لم نفهم كيف أُقْحمتْ هذه الجملة وسط الشرح!! لكن بعدها فهمنا، وحدثنا ذلك الطالب كيف خجل جداً أنكَ منتبهٌ وأنكَ أنّبته بطريقة غير مباشرة فجعلته يخجل من فعله وصنيعه أضعاف ما لو قلتَ  بشكل مباشر أمام الجميع.                                                                          

     حدث مرّة أن دخلتُ الحصة وأنا مُبتلّ جداً من المطر الذي انهمر بغزارةٍ أثناء قدومي للمدرسة، كنتُ غاضب، ولولا أنها حصتك والتي لا تعوّض، لَما دخلتُ وأنا بهذا الحال، رأيتَني فابتسمتَ، وسارعتَ لتخبر الجميع بقصة عن حب الصالحين للمطر وتعمّد بعضهم التعرض له -أحياناً- ابتغاء البركة، كان كلامكَ مهماً جداً في اسكات غضبي، وفي تخفيف الحرَج ومنع أيّ تعليق ساخر قد يصدر، وكثيراً ما نصحتنا بقراءة الكتبٍ المفيدة، بل وأعطيتنا بعضها على سبيل الجوائز لأصحاب العلامات المتفوقة، أو بالإعارة، أو بالإهداء، أذكر مثلاً:  أني قرأتُ كتاباً كاملاً بطريقة الاستعارة منك، وأني عرفتُ وقرأتُ  الكثير من الكتب من خلال ما كنتَ تذكره لنا في دروسك، وبالطبع لا ننسى أنكَ ذات يومٍ أسعدتنا حين بشّرتنا بأنكَ تدعو   دائماً في كل صلاة فجر، لجميع طلبتك، بالتوفيق والهداية والصلاح والسعادة والخير، هذا بعضٌ من كرم تعاملك داخل المدرسة، أتعلم  أستاذي الفاضل، وبعد كل هذي السنين، كثيراً ما أقتبس من أساليب تعاملكَ الراقي مع طلبتي في المدارس التي أعمل بها حالياً، وفي داخلي جزيل الشكر والدعاء أنكَ من علّمني اياها.                                

    أبي الكريم -وأظنكَ لا تمانع أن نناديكَ هكذا- فلطالما أشعرتنا أن علاقتكَ بطلبتك هي علاقة الأب بأبنائه، وليس أيّ أبٍ، بل الأب الحكيم المربي، المحترِم لهم، المشفق الناصح، الساعي لجلب الخير لهم ودفع الضر عنهم، وقد كان سعيكَ هذا حقيقياً على أرض الواقع، وليس مجرد كتابة أدبية على الورق فقط، حدثني صديقي ذات مرة أنه استدعاك للاصلاح بينه وبين أخيه حين احتدم خلافهما، لأنه يثق بحكمتك، ولم يستدعِ أباه الذي يخشى غضبه، وذلك بعد أكثر من خمس سنواتٍ على تخرجه!! وكنتُ مرّةً أجلس مع مجموعة شباب فتحدث احدهم عن دوركَ في انقاذ أخيه من سيء الأخلاق التي لازمه في شبابه!! وكم كان لكَ من يدٍ معطاءة في التوفيق بين أهل الخير والطلبة المحتاجين لاتمام نفقاتهم، وإنْ أنسَ فلن أنسَ موقفين كنتُ شاهداً عليهما بنفسي لقربي من صاحبيِّهما:

- الموقف الأول: فاحدى أصدقائي ضربته الأيام والظروف بعد تخرجنا حتى وصل به الحال أن كان على وشك فعل منكرٍ عظيم، فكنتَ أنتَ الوحيد الذي لجأنا إليه ليوقفه عن حماقاته، لا أهله الغافلون عنه ولا أصدقائه اللذين لا يستطيعون شيئاً، أنتَ فقط من فعلها وأنقذه وكم هو مدينٌ لكَ اليوم.

- أما الموقف الثاني: فصديقٌ آخر ضربته أعاصير الأيام، حتى وصل بها الحال لأبٍ لا يتحمل أدنى مسؤوليات أسرته وأبنائه، فحاولتَ جهدكَ لاقناع الأب بمسؤولياته ولمّا لم تتحرك صخرة قلبه على ابنه، كنتَ أنتَ الأب، فقمتَ مع باقي زملائك المعلمين المخلصين الأوفياء بتخصيص راتبٍ شهريٍّ دائم لهم، ورعايتهم في شؤونهم تماماً كما ترعى أبنائك اللذين من صلبك.


     أستاذي العظيم وأبي الكريم، وعلى ذكر أبنائك، فإنّ مما أكَد لنا نحن طلبتك صدق تصرفاتك، وأنها ليست تمثيلاً أو تصنْعاً أو قناعاً ترتديه في المدرسة فقط، بل هي أصيلةٌ في طبعك، عفويةٌ في فعلك، عميقةٌ في قلبك، عقيدةٌ في وجدانك، أقول ما زادنا توثّقاً أنا رأينا مصداق ذلك في تربيتكَ لأبنائكَ، رأيناكَ وأنت تعلم أَنَا نراك -في دروسك- ورأيناكَ وأنتَ لا تعلم أَنَا نراك -من خلال ما يصلنا عن تصرفاتكَ خارج المدرسة، ومن خلال ما نراه في مجتمعك من حولك- فلا نجد إلا انسجاماً واتفاقاً بين سلوكياتكَ أمامنا ومعنا، ومع عموم الناس بعيداً عن أعيننا.        

  

     أبي الكريم، وبعد كل هذه السنين منذ تخرّجتُ أنا وأصدقائي، لا زلنا لليوم كلما ذكرنا المدرسة وأيامها ذكرناكَ كأول قاماتها، وكلما ضربنا مثلاً للأخلاق كنتَ أنتَ مَثَلَنا، وكلما أراد أحدانا استحضار نموذجٍ مبهرٍ للتربية، لنفسه أو لأولاده أو لطلابه، لم نجد خيراً منكَ نموذجاً للأب والمعلم المربي، وكلما أحبّ أحدانا أن يقنع نفسه أن الصالحين لم ينقرضوا بعد استجلبكَ دليلاً -نحسبكَ كذلك والله حسيبك- فتنتعشُ آمالنا ربما نستطيع يوماً كما أنتَ استطعت.


     هذه الرسالة كتبتها وأُرسلها الى أخواني وزملائي الأساتذة المعلمين وأنا أشهد بدماثة أخلاقُهم وطيب معشرهم وحرصهم على نفع الآخرين، فتحياتي لمن يفهم كلامي وللحديث بقية …