منذ ثلاثة أعوام، نظمت اللجنة الثقافية بكلية طب طنطا، التي تشرفت كوني أحد أعضاءها، ورشة للكتابة الإبداعية، باستضافة د.غادة عبدالعال، ما إن بدأت المحاضرة، حتي وجدنا الدكتور أحمد خالد توفيق يجتاز القاعة هادئا بشوشا كعادته، تغطي عينيه نظارة داكنة اللون، ألقي التحية علي د.غادة عبدالعال، التي ارتبكت قليلا من هول المفاجأة، ثم جلس بيننا ينصت باهتمام إلي المحاضرة، كان من المفترض أن يكتب الحاضرين قصة قصيرة من وحي الخيال، فتعجب الأستاذ حينها من كون أغلب القصص ذات طابع مأسوي حزين، كيف لشباب في مقتبل أعمارهم ألا يخطر ببالهم سوي مشاهد الأسي والحزن؟!، فهذه الفتاة تقص مشهدا عن احتضار الأم، وتلك تقص عن إصابة فتاة بورم سرطاني، إلي آخره. وهذا ما استدعاه ان يكتب مقالا مفصلا حينها عن ذلك، وفي نهاية المحاضرة التقطنا الصور الي جواره. والتي ما ان وضعت علي الفيس بوك حتي انهالت علينا تعليقات الكثيرين من جميع المحافطات يغبطوننا علي تلك الفرصة، التي جعلت الدكتور خالد توفيق يجلس بيننا نتجاذب معه الأحاديث.

وقد أتاح لي القدر ان أجلس إليه عن قرب ما يقارب النصف الساعة في حفل إفطار لدفعتي بكلية الطب، رأيت فيه التواضع الجم، والخلق الرفيع والرؤية النافذة، تحدثت إليه في السياسة والأدب والفن،  بدأت حديثي اليه، كمن يتحدث إلي صديق قديم:

_يا دكتور، حضرتك عارف طبعا ان دا افطار دفعة الثورة، اللي شافت أقصي مساحة حرية للنشاط الطلابي في الجامعة بعد الثورة، واللي شوفنا النشاط الطلابي برده وهو بيتقفل.

 لا استطيع أن أنسي كلماته، التي مازالت ترن في أذني حتي الآن، حيث قال:

_أعرف هذا جيدا، انتم الجيل الذي ذاق نسيم الحرية ، ثم ذاق ويلات الاستبداد.

لست محظوظا، إذ أنني لم أقرا في صغري سلسلته الشهيرة ( ما وراء الطبيعة )،  بل انني لم أقرأ له سوي رواية يوتويبيا، ولكنني رأيت في مقالات الرجل تعبيرا صادقا عما ينبغي ان يكون الكاتب والمثقف الحقيقي، فقد كرث قلمه للدفاع عن مبادئه، وظل قابضا علي الجمر، لم يجامل أو يهادن أحد، طمعا في جاه او سلطان، وكان الممكن ان يفعل ذلك بسهولة، لتفرد له الصفحات في كبريات الجرائد الحكومية والخاصة، والكثير من أبواق الإعلام، لكنه ألقي بكل ذلك وراء ظهره، غير عابيء، وانحاز أخلاقيا للإنسان وكرامته، ولقيم الحق والخير والجمال، واستحق بصدق أن يكون هو بوصلة ثورة يناير التي لا تحيد عن أهدافها، انظر عزيزي القاريء، كيف كتب الأستاذ عن شهداء يناير قبل تنحي مبارك بيومين: أمس كنت أرى صور الشباب الشهداء على شاشة التلفزيون، عندما قال صديقي: تصور أن بعض هؤلاء كان يقرأ قصصك، شعرت بقشعريرة.. هم أولادي فعلاً.. هذه العيون الذكية الحساسة أغمضت للأبد، كي يبقى الحزب الوطني.

ولعل الكثيرون لم يعجبوا بشعبية الرجل، وتكريم محبيه الذين فاجأوهم بالآلاف علي صفحات الفيس بوك وتويتر، ومنهم من حاول أن يدس السم في العسل، قائلين بأنهم لم يقرأوا له رواية، ومنهم من قال بأنهم قد قرأوا له لكنه ليس نجيب محفوظ أو توفيق الحكيم، متغافلين عن كونه بمثابة مفتاح القراءة لدي الكثير من الشباب الذين تربوا علي قراءة كتبه وسلاسله منذ الصغر، وكان ذلك مدخلا حقيقيا لقراءة الكتاب الكبار أمثال يوسف ادريس وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وتولستوي وغيرهم.

 إننا جميعا لم نودع الدكتور أحمد خالد توفيق بتلك الحرارة الصادقة، لأنه كان الأديب رقم واحد، وإنما كان ذلك حزنا علي قيمة افتقدناها، وعلي رجل ظل يكتب لنا لا علينا، يحذرنا من غفلتنا، ويربت علي أكتافنا عند هزيمتنا، ينصحنا بصدق، ويلومنا في حب، لا يريد منا جزاءا ولا شكورا، فرحمة الله الواسعة علي أحمد خالد توفيق، رحمة الله الواسعة علي فارس نبيل في زمن عز فيه الفرسان.