يشكل الفن والأدب بكافة أشكاله استثارة عظيمة لعاطفة وعقل الإنسان والشواهد على ذلك عديدة .. ولكن هل يخطر على البال أن استكشاف الإنسان للفضاء ابتدأ منه؟ ولذلك قصة سأحكيها في ثناية هذه التدوينة.
يذكر كريغ نيلسون في كتابه " رجال الصواريخ" أن مقت قيود الجاذبية الأرضية والتطلع لبناء مركبات تحمل البشر إلى عوالم أخرى بعيدًا عن كوكب الأرض لم يكن القاسم المشترك الوحيد بين الأمريكي روبرت جودارد والروماني هيرمان أوبيرث والروسي قسطنطين تسيلكوسفكي، بل جمعهم أيضًا حدث آخر مهم غير اتجاه حياتهم وحياة الملايين بعدهم ألا وهو قراءة رواية الخيال العلمي" من الأرض إلى القمر" لجولس ڤيرني التي صدرت عام 1865 والتي تخيل فيها ناديًا للمدافع في بلتيمور بنى أعضاؤه مدفعًا عملاقًا أسموه "كولومبيا" لقذف ثلاثة رواد فضاء إلى مدار قمري ثم يعودون إلى الأرض ليرتطموا بالمحيط الأطلسي في تصور يكاد يكون مطابقًا لرحلة أبولو 11. الطريف في الأمر أن مسئول العلاقات العامة في ناسا جوليان شير قام بعد حوالي مائة عام من صدور تلك الرواية باقتراح تسمية مركبة التحكم في أبولو11 بنفس اسم ذلك المدفع "كولومبيا" تقديرًا لذلك العمل الأدبي الملهم وتكريمًا لمؤلفه المبدع السابق لزمانه. أحد هؤلاء الثلاثة هو روبرت غودارد الذي يعد أول أمريكي أسس لعلم الصواريخ وتوج عمله في ذلك المجال عام 1919 بكتاب "طريقة للوصول إلى ارتفاعات شاهقة" فصّل فيه النظريات الرياضية لطيران الصواريخ ومميزات وعيوب الوقود الصاروخي الصلب والسائل فكان بعمله ذلك محفزًا للرجل الثاني وهو مدرس المرحلة الثانوية الروماني المقيم في ألمانيا هيرمان أوبيرث فألف كتاب " الصاروخ في الفضاء الخارجي" وبنى لأوروبا أول صاروخ يعمل بالوقود السائل ، كما عمل كمستشار لفريتز لانج مؤلف رواية الخيال العلمي " سيدة في القمر" والتي اخترع فيها "العد التنازلي" قبل الإطلاق عام 1928.. وتوالت السلسلة .. فعالم الفضاء الألماني ڤيرنر ڤون براون الذي تلقفه الأمريكان عقب الحرب العالمية الثانية والذي يعد القوة المحركة لبرنامج الفضاء الأمريكي المنافس لنظيره السوڤيتي فيما كان يعرف بسباق الفضاء ،تأثر وهو في التاسعة عشر من عمره بما كتبه هيرمان فاندفع إلى النهل من علوم الفيزياء والرياضيات حتى بلغ مبلغه .. انطلق ڤون براون بعد ذلك في مجال الإعلام فكانت له معه محطات نتج عنها تحولات عديدة وهامة ليست في مسيرته هو فقط بل في مسيرة البشرية جمعاء .. ذلك أن ڤون براون بعد استقراره في أمريكا وتململه من سكون الوضع العام على عكس ماتوقع عند وصوله إليها، قام بتأليف كتاب عنوانه "مشروع المريخ" بث فيه شغفه بالسفر إلى المريخ لإشعال الحماس في الشعب الأمريكي كي يدعم الفكرة ، لكنه لم يجد من يقبل نشر الكتاب من الثمانية عشر ناشرًا الذين عرض عليهم مسودته إلى أن التقى بنائب رئيس تحرير مجلة " كوليير" التي كانت تتمتع بشعبية كبيرة وبدأ الكتابة فيها مع ثلة من العلماء عن مستقبل الإنسان في الفضاء فرسم بالتفصيل رؤيته المستقبلية لسفينة فضاء تشبه إلى حد كبير مكوك الفضاء الحالي وتلسكوب فضائي شبيه لتلسكوب هابل وأكد على على ضرورة أن تلتزم الدولة بمشروع الفضاء مثلما التزمت بمشروع منهاتن لامتلاك القنبلة النووية. ولم تتوقف جهوده عند ذلك فقد حاضر بحماس وشغف لمنسوبي كلية القوات المسلحة عن أهمية التجسس الفضائي والأسلحة التي تستهدف إسقاط الأقمار الصناعية ولكن دون فائدة تذكر، فقد كان الصوت السائد في تلك الفترة بعد الحرب العالمية الثانية يدعو لتكثيف الإنفاق على التنمية والتعليم والصحة وتقليص الإنفاق العسكري.. واستمر الحال على ماهو عليه حتى أتى الاهتمام من والت ديزني رائد صناعة الترفيه الذي قام بالاشتراك مع قناة abc الناشئة حينها بإنتاج برنامج تلفزيوني بعنوان ديزني لاند Disneyland اختاروا له سلسلة بعنوان "أرض المستقبل" فدعي ڤون براون للظهور فيها متحدثًا بصفته أحد كتاب مجلة كوليير، فكانت حلقة "الإنسان في الفضاء" التي بثت في التاسع من مارس 1955 وتابعها أكثر من 42 مليون مشاهد أمريكي السبب في تتويجه رمزًا وطنيًا لعلم الصواريخ..وتوالت الأحداث بعد ذلك وتكللت بإطلاق صاروخ ساترن 5 الحامل لمركبة أبولو11 عام 1969م و هبوط نيل آرمسترونج كأول إنسان يخطو على سطح القمر . وعرفانًا بدور الملهم هيرمان أوبيرث قام ڤون براون بدعوته مع كبار الشخصيات لحضور تلك المناسبة التي دشنت عصر استكشاف الإنسان للفضاء والذي ابتدأ من صفحات رواية خيال علمي.