المتأمل في معظم الإنجازات البشرية التي شكلت منعطفات هامة في مسيرة التاريخ وخصوصا التقنية منها يجد أنها لم تصل إلى كل الأجوبة اللازمة لمعرفة الطريقة المثلى لتحقيقها.. من تلك الإنجازات التاريخية المهمة والتي انطوت على أخطر مغامرة للإنسان بأخيه الإنسان في غير الحروب هي مهمة إنزال إنسان على سطح القمر والعودة به بسلام إلى الأرض..
في كتاب المؤرخ كريج نلسون "رجال الصواريخ " الذي صدر بمناسبة مرور أربعين عامًا على هبوط الإنسان على سطح القمر والذي يكشف فيه كثيرًا من التفاصيل التي كانت تدور في كواليس الوكالة الوطنية للطيران والفضاء (ناسا) أثناء الإعداد لتلك المهمة الجبارة .. يذكر المؤلف أن مدير المشروع أورد في يومياته التي سبقت موعد الاطلاق بثلاثة أشهر قائمة ب ١٤٩ ظاهرة غير مفهومة حدثت في مركبة أبولو ٩ وغيرها أيضًا ظواهر في أبولو ٨ و ١٠ معظمها يختلف عن الآخر .. ولم يتم التوصل لمعرفة أسباب حدوثها .. ومع ذلك تم تقييم آثارها المحتملة ومن ثم اتخذ قرار المضي قدما في تثبيت الموعد المقرر للإطلاق. الذهنية الحاكمة والآلية التنفيذية التي صنعت القرار تدرك أنه مهما تم تأجيله فلن تنتهي الأسئلة ولن تكتمل الأجوبة إلا بالتجربة. فالتفاصيل التي يجب الإلمام بها في مهمة من هذا النوع عديدة بعضها يتعلق بفهم طبيعة القمر وأرضه وأجوائه وبعضها يتعلق بانضباط دقة التنفيذ وتكامل عمل الأنظمة ..
من الأمور التي تمسك بها رائد الفضاء نيل آرمسترونج ورفض التنازل عنها هي أن تكون له مشاركة فعالة في صنع قرار الاستمرار في الهبوط على سطح القمر أو إلغاء المهمة في حال حدوث طارئ .. كما أصر على أن يكون له قدرة على توجيه المركبة يدويا للهبوط بها. كيف لا فهو مهندس طيران كفء تخرج من جامعة بوردو الملقبة بجامعة رواد الفضاء لتخريجها أكبر عدد رواد فضاء أمريكا، كما كان قائد طائرات مقاتلة متمرس فجمع بين الحسنيين .. الخلفية الهندسية النظرية والمهارة في الأداء .. وقد احتاج لكليهما في تلك المهمة وإليكم القصة كما أوردها كريق نيلسون في كتابه: في آخر مرحلة قبيل الهبوط على سطح القمر انتقل رائدا الفضاء آرمسترونج وآلدرين إلى مركبة الهبوط "كولومبيا" وقاما بتفريغ الهواء من منطقة الالتحام تمهيدا لعملية الانفصال إلا أن العملية لم تتم بالشكل الكامل حيث بقيت هناك كمية بسيطة جدا من الهواء تسببت في دفع المركبة بشكل أسرع عند الانفصال مما نتج عنه زيادة في سرعة هبوطها وبالتالي ازدياد الحاجة لمزيد من الوقود لكبح جماحها .. إضافة إلى ذلك فقد انحرفت عن الموقع الذي يفترض أن تهبط فيه مما استدعى أن يقوم آرمسترونج بالتحكم فيها يدويا للبحث عن موقع مناسب للهبوط علما بأن الوقود الذي كان معه لم يبق منه في النهاية إلا مايكفي لخمس ثوان من التحليق كي لايستهلك من الوقود اللازم للعودة إلى المركبة الأم .. فكان بين اختيارين إما أن يلغي المهمة ويتجه بالمركبة إلى الأعلى أو يواصل المناورة مع المخاطرة باستنفاذ الوقود والاصطدام بسطح القمر أو الهبوط بسلام مع عدم القدرة على العودة إلى الأرض من جديد أو أن ينجح في كليهما.. فكان له مااجتهد لتحقيقه وهو الهبوط والعودة بسلام .. ولم يكن ليتأتى له وللبشرية جمعاء ذلك الإنجاز دون خوض التجربة وحشد حصيلة المعرفة والتدريب لإنجاحها والتعامل الناضج مع التحديات وإضافة نتائجها إلى رصيد أجوبة الأسئلة التي رغم بقاء بعضها حتى الآن دون إجابة لم تعق تقدم البشرية وانطلاقها لخوض غياهب الكون.