د. علي بانافع
كان التاريخ في الماضي علم تثبيت الحاضر وتبرير أحواله، والمحافظة على حسناته وسيئاته على حد سواء، ومن ثم كان التاريخ من وسائل الرجعية ومحاربة التقدم، ولهذا ذهب بعض الفلاسفة إلى أن الأمة السعيدة هي التي ليس لها تاريخ يشدها إلى الماضي ويكبلها بقيوده فلا تتطور ولا تتقدم، أما الآن وبعد أن آمنت الأمم بضرورة التقدم والتطور واعتبرتهما من أهم وظائف الدول، فقد أصبح التاريخ علم دراسة حركة الزمن ورصد اتجاهات التطور، وأصبح من أدوات المجتمعات في معركة التطور والتقدم والرقي، ولم تعد مكانة علم التاريخ في مناهج الدراسة على اختلاف مراحلها الآن موضع تساؤل؟، لقد مضى ذلك الزمان الذي كان أهله يرددون قولة: "ما أسعد أمة ليس وراءها تاريخ"، وانقضى عصر كان مربوه، يؤمنون بقولة: "إن الحمقى الذين يسمحون لأولادهم بأن يتعلموا التاريخ".
سأقدم هنا عرضاً موجزاً، عن الطريقة التي تم تدريس التاريخ بها في العالم العربي، في العقود الأخيرة، وأرجو أن يؤدي نشر هذه الملاحظات إلى مناقشة وطريقة جديدة في التفكير حول كيفية تدريس التاريخ والعلوم الاجتماعية، من خلال نظرتي للموضوع أعتقد بأن تدريس التاريخ في الدول العربية قد مر بمرحلتين أساسيتين، والتي يجب أن يُنظر إليهما في سياق نمو أنظمة التعليم العام في الدول العربية الحديثة:
▪️بدأت المرحلة الأولى في خمسينيات القرن الماضي، في تلك المرحلة كان تدريس تاريخ المجتمعات العربية يتم في ضوء مُثل القومية العربية المتمثلة بمصر الناصرية، تركز هذه النظرة للتاريخ بشكل كبير على الثورة العربية الكبرى لعام 1916م، عندما قاد الشريف الحسين بن علي الحاكم الهاشمي لمكة المكرمة، حملة سياسية وعسكرية ضد الدولة العثمانية، بهدف إقامة مملكة عربية مستقلة، كانت هذه الرواية التاريخية بارزة في تدريس التاريخ في المدارس الحكومية في مصر وسوريا والعراق ومعظم الدول العربية، وكان تدريس التاريخ في تلك المرحلة شديد الحساسية للتطورات الاقتصادية والسياسية المعاصرة، ففي مرحلة الحرب الباردة وولادة حركة عدم الانحياز، كان التاريخ العربي يُدرّس إلى جانب تاريخ الحضارات والثقافات المجاورة.
▪️وتميزت المرحلة الثانية بالتركيز على تاريخ الدولة الوطنية بشكل منفرد، حيث أولى هذا النهج اهتماماً خاصاً بتطور النظم السياسية في الدول العربية على سبيل المثال (جمهوريتي البعث في سوريا والعراق) وتاريخ الأسرات الحاكمة (كما في حالة مصر واليمن والمغرب والأردن والممالك العربية الأخرى)، في هذه المرحلة، يمكن أن نرى نوعاً من التراجع في سرد الحقائق البسيطة، فضلاً عن شبه نبذ لنطاق التحليل أو التفسير، ومن هنا بدأت النظرة السلبية للتاريخ، ونتيجة لذلك، أصبح لدى الشباب اهتمام ضئيل بأهمية تاريخهم، وأصبحوا غير واعين بشأن المساهمة التي قدمتها حضارتهم للعالم ككل.
هناك كثير من الشباب، لا يعرف أو لا يريد أن يعرف ماذا حصل، وقد يكون معه بعض الحق، فما يجري الآن من أهوال في العراق وسورية ولبنان واليمن وغيرها؛ يُنسي الناس النكبة والنكسة، نعم رغم فاجعة اليوم، ولكن لا بد أن تسمع الأجيال الجديدة عن الخامس من يونيو (حزيران) وما هي نوع الدول والحكومات التي تصدت لهذه الحرب؟! وكانت الهزيمة المنكرة ولماذا؟! وما هي الأفكار التي كانت سائدة يومها؟! إنه التاريخ المعلم الكبير للبشر.
التاريخ جزءاً أساسياً من ثقافة أية أمة، حريصة على بناء حاضرها ومستقبلها، ويجب أن نفرق بين التاريخ كعلم، وبين التاريخ كمادة دراسية تُدرس في المدارس، فالتاريخ كعلم هو من أقدم العلوم؛ إن لم يكن أبو العلوم جميعها، على حين أن التاريخ كمادة دراسية؛ قد يكون من أحدث العلوم دخولاً في مناهج المدارس، إذ لم يكن التاريخ يُدرَّس لنفسه، وإنما في الغالب وسيلة لدراسة علوم أخرى، ولم يكن لدراسة التاريخ أي هدف تربوي، ولم ترتبط بأي غرض من الأغراض التي من أجلها تقررت دراسة التاريخ في المدارس، ولا زال دراسة التاريخ ومناهجه على هذا النحو وبهذا المستوى في المدارس، بل ولا زال تدريس التاريخ على فلسفته القديمة وبأساليب قديمة، وما زال الشاب الذي يتخرج من المدرسة، بعد دراسة سنوات لعلم التاريخ، لا يزيد في عمر خبراته على عدد سنوات عمره الزمني، ولو تعلم التاريخ بفلسفته الجديدة، لتخرج وعمره من حيث الخبرة والعصر الاجتماعي يقاس بامتداد تاريخ قومه؛ وإن لم يكن بامتداد تاريخ البشرية، ومشكلة تدريس التاريخ في مدارسنا من مظاهر مشكلات التعليم عموماً، فالمفروض أن التاريخ هو المفتاح الوحيد لحل مختلف المشكلات، وللوصول إلى الحق فيما يلتبس على الناس أمره من مختلف المشكلات والنظريات والآراء، غير أن الثمرة الحقيقية من وراء ذلك -للأسف الشديد- هو عكس هذا المفروض تماماً، أي أن الثمرة التي يجنيها المتعلمون من وراء تدريس التاريخ، هو نشوب المزيد من الصراع الفكري والفرقة في الرأي، بل وشيوع روح الكراهية والعداوة والنقمة فيما بيننا، ولا ريب أن هذه الظاهرة مشكلة كبرى لا ينبغي تجاهلها، ولا بد من وضعها في رأس قائمة المشكلات التي يجب معالجتها بسلاح متين من المنطق الدقيق والتجرد الخالص، فما أعظم كارثة الأمة حينما تُبتلى في تاريخها، وهو السبيل الوحيد لاكتشاف الحقائق والمبادئ والقيم.