في المسارح المعرفية اليوم نلحظ كمية الخرائط الذهنية التي تتبوأ سلم    الوصول للأهدافٍ محققة «على الصعيد التنظيري»، وتداعب مخيلة العقول الساعية للأهداف منشودة مرغوبة، ولكنها تنصدم حين تُطبق ما في الخرائط الذهنية من ومضات على أرض الواقع المعيش، فالميدان يختلف تكتيكيًا عما نهندسه في دينامية العقل، فالميدان بتموجاته الواعية تدفع بالخطوات الموضوعة في الخرائط الذهنية إلى إعادة تموضع كل حينٍ، بسبب التغييرات المفاجئة التي تحدث أثناء المسير إلى تحقيق هدفٍ ممكن نظريًا بيدَ لو استطعنا «خلق أهدف ممكنة من لا ممكنة» من رحم القراءات المتكررة للموقف بعينه، للآن إعادة القراءة يساعد على الفهم المجازي الذي بدوره يُشكل صورة عالية الوضوح والدقة للمشهد الذي حال دون نيل الهدف الممكن نظريًا للأجل ذلك يتحتم علينا بلورة الأفكار الإبداعية والدفع نحو تمنطق الأحداث الراهنة في فسيفساء التجاذبات الفكرية الدارجة على المسرح المعرفي اليوم، فيجعل المنظور العام للثقافة أنها عبارة عن مزيجٍ من المهام التي تُلقى على عواهنها من غير عنانٍ أو رسن! فديمومة الأفكار ذات الوجهة الصائبة تكمنُ في تمحيصها في قوالبِ الرأي والرأي الآخر، فمن دونِ ذلك تصبح بلورة الأفكار عملية أشبه بإخراج المارد من قُمقُمهِ، فتنحصر تلكم الأفكار الإبداعية في دوائر الاتهام بمسحة من الجنون العقلي، فالفكرة الدارجة تحت بند العبقرية لابد أن تخرج من عقلٍ به مسحة من جنونٍ، فمن دون ذاك الجنون لا يوجد شيء اسمه «بلورة الأفكار الإبداعية».

وأيضًا، فإن من أبرز الأشياءِ المسيطرة على العقل البشري هو دوران الأنا في فلك إظهار وجوده  في مُحيطه الاجتماعي ويعقبه بعد ذلك عدة خطوات تصعيدية في شق الطريق نحو هدفٍ منشود، «إظهار الذات»، إما في منصبٍ مرموق أو تخصص أكاديمي نادر لم يسبق إليه أحدٌ من مُحيطه الاجتماعي طريق مرهق للتركيبة النفسية الباحثة عن ذاتٍ واهمة سلفًا! فصنع الأشياء الحقيقة يتطلب قبل كل شيء «تركيبة نفسية تعي وتفرق ما بين الأماني  وما هو واقع»، فلذلك عندما يلتقي سحرُ إحساس الباحث عن ذاتٍ بدينامية عقله ينتشر في مُحيطه الاجتماعي موجة تأثيره البانورامي لدى من يلتقي به من الوهلة الأولى، فالأشياء تتداخل في مكنوناتها الدارجة؛ فيحصل نوع من الدافعية المستحسنة التي تستسيغها ذائقة إظهار الذات كل حينٍ، فالمجبول على إظهار ذاته كل هنيةٍ تجاذبه العواصف في عقله الباطن، فتارةً نراه بجزيئات معينة في ردات الفعل، وتارةً أخرى نلحظ في سكونه تثبيطًا عارمًا، وجميع هذه الأمور ترجع إلى بُنيته النشؤوية فالبيئة هي من تشكل المادة الخام في التركيبة النفسية للإنسان، فبها تتمحور ذات الإنسان، ويُسْقى مخزون معارفه بماء الحلول المعرفية التي بدورها تدفعه للاتخاذ قرارات  بناء على معطيات متوافرة من واقعه المحسوس، فالإنسان بتجريداته النفسية لا يستطع أن يُخفي ذاته المتوهجة الكامنة تحت مؤثرات الطموح والسلم الأخلاقي السائد بواقعه المعيش، فيحدث في داخله صراع عميق لحتمية الأخذ بالسير ما بين طريق الطموح «إظهار الذات»، واتباع القواعد الأخلاقية المجتمعية المُسلم بها اليوم بيدَ أن القابلية لهذه الأمور لم تعد دارجة بسبب التقلبات والتغييرات في أنماط العقل البشري، فكل عقدٍ يمضي تمضي معه ما آمنت به من أفكارٍ أو معتقدات، فالمجتمع الحداثي يُعاني حقيقةً من التغيير المستمر المستدام في شتى أفرع الحياة، بالإضافة للنظرة الشمولية للذات أو لتفاصيل غير مطعمة لمخزونه المعرفي.

همسة

التدقيق والتعمق للسير في أحداث التاريخ يعطي تراكمًا معرفيًا مؤثرًا بشكلٍ أساسي في إعادة الأمور ذات الطابع الخاص، فالماضي بجذرياته العينية وأدواته المجازية غيضٌ من فيضٍ.


انتهى