في بادئ ذي بدء، وقبل الولوج الى غمار موضوعنا، دعنا -عزيزي القارئ- نُعرِّف مصطلح الغيرة.. هي كما قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (2/ 530): (الغيرة بفتح الغين المعجمة وهي في اللغة تغير يحصل من الحمية والأنفة وأصلها في الزوجين والأهلين) وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم (125/4): (قال العلماء الغيرة بفتح الغين وأصلها المنع، والرجل الغيور على أهله أي يمنعهم من التعلق بأجنبي، بنظر، أو حديث، أو غيره، والغيرة صفة كمال) يا له من تعريف يُقلِّب المواجع! وفي الحقيقة إن أردتُ سرد قصص الغيرة عند رسولنا الكريم أو أصحابه أو من بعدهم لطال بنا المقال، ولكن أذكر طرفا منها يتبعه تعليق يسير وخاتمة،

جاء في صحيح البخاري: (قال سعد بن عبادة: لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : تعجبون من غيرة سعد ، والله لأنا أغير منه ، والله أغير مني ، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، ومن أجل ذلك بعث المبشرين والمنذرين ، ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ، ومن أجل ذلك وعد الله الجنة). وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يُروى عنه أنه لما رأى الأسواق يزدحم فيها الرجال والنساء قال غيرة على نساء المسلمين: ألا تستحيون ألا تغارون ؟ فإنه بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج -أي الأجانب- في الأسواق.

، وقد سمُعت عائشة رضي الله عنها؛ تقرأ قوله تعالى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى) [الأحزاب:33]، ثم تضع خمارها على وجهها وتبكي وتقول: (خان النساء العهد، خان النساء العهد.)

ومن أعجب القصص التي تبين لك عظم أمر الغيرة عند العرب: أنه تقدمت امرأة إلى مجلس القاضي موسى بن إسحاق بمدينة الري سنة 286هـ؛ فادعى وكيلها بأن لموكلته على زوجها خمسمائة دينار (مهرها)، فأنكر الزوج، فقال القاضي لوكيل الزوجة: شهودك. قال: أحضرتهم. فطلب بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة؛ ليشير إليها في شهادته، فقام الشاهد وقال للمرأة: قومي. فقال الزوج: تفعلون ماذا؟ قال الوكيل: ينظرون إلى امرأتك وهي مسفرة؛ لتصح عندهم معرفتها.

قال الزوج: إني أشهد القاضي أن لها عليّ هذا المهر الذي تدعيه ولا تسفر عن وجهها.

فقالت المرأة: فإني أُشهِد القاضي أني وهبت له هذا المهر وأبرأتُ ذمته في الدنيا والآخرة

فقال القاضي وقد أعجب بغيرتهما: يُكتب هذا في مكارم الأخلاق.

وقال الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين (3/ 168): (وَلِذَلِكَ قِيلَ كُلُّ أُمَّةٍ وُضِعَتِ الْغَيْرَةُ فِي رِجَالِهَا وُضِعَتِ الصِّيَانَةُ فِي نِسَائِهَا) وقال في موضع أخر في الحديث عن الأحكام الشرعية للصبر (4/ 69): (وكمن يَقصد حريمه بشهوة محظورة فتهيج غيرته فيصبر عن اظهاره الغيرة ويسكت على ما يجري على أهله فهذا الصبر محرم) وقال الشاعر:

انّ الرجال الناظرين الى النسا

مثل الكلاب تطوف باللحمان

ان لم تصن تلك اللحوم أسودها

أكلت بلا عوض ولا أثمان

لا تتركن أحدا بأهلك خاليا

فعلى النساء تقاتل الأخوان

فانظر -وفقك الله- الى ما ذكرنا من أخبار عن غيرة المسلمين على نسائهم، إن الأسف كل الأسف ، والأسى كل الأسى أن نرى هذه الخصلة الكريمة ، قد بدأت تتناقص في نفوس بعض الخلق، بسبب حملات ممنهجة تبثها وسائل الإعلام ما بين مسموع ومقروء ومشاهد، تسعى إلى تقليد الغربي في كل أمر! بل وبات يُرمى من يغار على عرضه بأنه: متشدد أو رجعي أو متخلف! فلعمري ماذا سيقول هذا الأخرق صاحب الجسد العربي والفكر الهجين عندما يبصر غيرة رسولنا الكريم وأصحابه رضي الله عنهم عن نسائهم.. فهل سيصفهم بالتخلف والرجعية؟!.. بل هل سيصف العرب قاطبة بذلك!!

إن المثقف "المستورد" إن صح التعبير، يتجنب تلك الأسئلة التي توقعه في مأزق واضح النتيجة، فتجده ينكر على من ينكر منكرا، فلما يُخبَر أن الرسول كان يفعل ذلك، يصمت ولا يجيب، لأنه إما أن يتراجع وإما أن يصرح ويتهكم بفعل الرسول فيخسر جمهوره.. على أن بعضهم يصرح بذلك!

ختاما: هذه الصخب الإعلامي لن ينتهي عند حدود الثرثرة الفضائية، بل هو تهيئة لأيام شديدة قادمة، ولسنا نرى سوى القشرة الخارجية فقط! نرجو ألا يحدث ذلك.

سامي بن محمد الهَرفي

١٤٣٩/٥/٥