دراسة نقدية
بقلم
حسن غريب أحمد
عضـو اتـحاد كتاب مصر
نـــــبرات المســـــــرود الشعـــــــــرى
فى
ديـــوان (( ثلاثــية البوح والرماد ))
للشاعر // سمير محسن
******************************
شعرية " سمير محسن " عالم يستدرج الشفيف إلى العميق مرتكزاً فى ذلك على مناغمة الذاكرة الموروثة للمفردة مع الذاكرة المبتكرة ، وذلك عن طريق عبورها من بوتقة اليومي إلى الحلم وأنساقه المتمظهرة كنظام لغوى يبدأ بشعرتيه من مراحلها الأولى المنبثقة من نبرة السردية ونبرة الاعتماد على الصورة ، وهذا ما تميل إليه قصائد ديوانه " ثلاثية البوح والرماد " الصادر عن إقليم القناة و سيناء الثقافى ـ فرع ثقافة شمال سيناء2001 م 000 بينما سنتبين كيف أن الشعرية تنحرف عن منحناها إلى منظومة تشكيلية تتمازج فيها نبرات البياض القصيدى مع نبرات السواد القصيدى ، منتجة بنية مدلولية رجراجة تتحرك بين البنية السطحية والعمقى لتمنح النص الشعرى أبعاده الاحتمالية القابلة للتأويل المشفوع بنبرة الفضاء المورفولوجي الذى تظهر منه اللغة ، وهذا ما تجسده قصائد ديوانه " ثلاثية البوح والرماد "
الديوان يتضمن ثلاثة وعشرون قصيدة وهى :
(( عقيق ـ منابر الأقصى ـ ثلاثية البوح والرماد ـ ريح الشرق ـ تعميد آسن ـ طقوس الثريد ـ الجذوة والرماد ـ سراديب النواميس ـ أجراس ومزامير ـ مومياء ـ دوار ـ تقاويم ـ مرايا ـ حداء بربري ـ محراب ـ صرخات ـ فى أعشاب الصمت ـ هديل الشعاب ـ خرافة وليل ـ جاهلى ـ جداريات ـ شوك السنوبر ـ طيوب ـ تشريف ـ خواء )) 0
وسمير محسن ليس بشاعر فحسب بل فنان تشكيلى وليس هذا الديوان الذى بين أيدينا هو الأول ولا الآخر ولكن صدر له من قبل (( حب يلاطم الأمواج 1988 ـ لون من العشق 1989ـ قطرات من طيف أرغول 1988)) 0
تتمحور قصائد الديوان حول سرد الحالة الشعرية بلغة تفارق مألوفيتها حين تبتعد عن موازاة المكتوب باللا مكتوب عن طريق انقطاع يحدث فى أفقية الذاكرة ومتوالياتها ، أو انقطاع يحدث الحدث الشعرى الذى يخرج عن معطياته المباشرة ، أو انقطاع يحدث فى بنية السرد الشعرى 0
بناء على هذا الكشف التحاورى ، سنستبر كيف انعزلت العزلة عن سطحها إلى مجازاتها فى ديوانه " ثلاثية البوح والرماد " التى نفت وحشة أبعادها فى القصائد المتفاعلة مع الحطام الواقعى والنفسى ، وتنزوي فى أصداء الوحدة المكتئبة بين الذاكرة والظنون كمعادل خفى للاغتراب الذاتموضوعي بشمولية محتملاته المكانية والزمنية ، والجسدية والروحية ، والحلمية ، وتتشاكل هذه المعطيات فى العناوين ، لتتناثر فى القصائد المترافعة شظاياها للحالة الشعرية بتداعيات بسيطة ترصد الخارجى ثم تمتزج مع مكوناته لتعري عمقه ، مستحضرة تفاصيله المألوفة إلى مشهدياتها التى تحوله إلى شعرية تنتقل بحواسها من المنفى الأول : " البوح " إلى المنفى الثانى " الرماد " بين المنفيين ، يجد الشاعر سمير محسن طريقا ثالثة للاغتراب تلتقى عناصرها فى قصيدته ( عقيق ) المبتدئة باستفهام موجه إلى الضمير الغائب المؤنث :
هل تروق لها بلدة المعجبين ؟
أم الزاهدين ؟
أيا خدها -----------
هل تروق لها ------ ؟
أيا خدها --------
أى شئ ينادمها فى الليالى القصية ؟
يحضن فيها البراءة صــ4
ترتكز هذه المسرودية القصيدية على مفتاح فنى أداة السؤال ( هل ؟ ) ، لتنحمل فيما بعد بنائية ما سيراه الأنثى الغائبة على الاستفهام الذى حمل الرؤيا من ذاكرة ( الذات ) الشاعرة إلى احتمالات الترائى المتوزعة فى الضمير الممتد مع أفق النص ليضم الذات القارئة أيضاً ويدخلها علائق التفاصيل العفوية المتشكلة من الصوت (( تروق له / أيا خدها / الليالى القصية / البراءة )) 0
والمتشاكلة عبر الصوت بمكونات الحواس الأخرى :
? أولاً : حاسة الشم ( عشب / طحلب / السدم / فستق زرع )) حيث تتفاعل فى (العشب ) حاستان الشم
والذوق 0
? ثانياً: حاسة الحركة التى تمزج بقية الحواس متحولة من فضاء حاسة السمع إلى حاسة إيقاعية أشمل":
(( المبانى العتيقة / عاشقها كالسراب / تغار المواسم من هذه الريح فى عنقها / الفصول تساوم
ما يتراءى على قدها )) وبذلك يستمر الزمن فى التملص من مكانيته الذاكريتة لينقطع عن
تداعياته بخاتمة القصيدة التى تنحرف بحدث التفاصيل إلى حدث اللحظة الراهنة المنحازة إلى
فضاء الصوت وهو يغدو مرئياً وكأنه يجيب عن استفهامه ( هل ؟ ) ويحمل فنيته الواردة كمفتاح
، دالة مضافة اتسعت رغبتها ، فكانت الخلفية المقصودة لفعل السؤال :
هى كالبداهة
فى غزلها والبداوة ------------
فى حسنها والصرامة فى أنفها 0
شعبها قد تخطى الحدود
مسافرة فى القلوب جميعاً
وهائمة فى مدار شفيق
بفستق زرع
بطعم العقيق 0 صــ6
وإلى ذات الحركية الروحية تنتمى قصيدتا ( منابر الأقصى صــ7 / ثلاثية البوح والرماد صــ11 )) حيث ينمو اللا مألوف من المألوف ، وتتسع فجوة التوازى بينهما عبر انقطاعات الحديث الذى يستمر فى حاضر وحدته فى قصيدة ( منابر الأقصى ) متواليا فى الصور اللاحقة ( ما ) المكررة كلازمة انتقال ترصد الطقس الداخلى للشاعر وتوزعه على المحيط بكل مفرداته السوداء (( نغرق / القاهر / يقتلنا / الموت / الغدر / يمحق / حرام / الأيتام )) وبمفرداته المأهولة بحواس مفقودة : (( إلا الرب الذاكر فى قاموس ---- / إلا صلاة الفجر / إلا التوب الراهب فى الشريان / لا تبرحينا / ولا ألف جائزة تلتقيها ))
فى هذا النص تنقطع الوحدة عن وحدتها لتسكن انقطاعين : أولهما الانقطاع الذى جاور حركة الانتقال من باطن الذات إلى باطن العالم الفاقد لشفافيته وبراءته وللحب والتآلف 0 أما الانقطاع الثانى فهو ما جاء بهيئة تكور الوحدة على تداخلات الانقطاع الأول ، واصلة صورة البداية بصورة النهاية ، منجزة عبر هذا الاتصال حركية الحدث المنقطع المكثفة فى سؤال الخاتمة ( فما يقصينا عن صهوتنا ؟ )
? أولاً : صورة البداية
القدس ملاك
كل العالم -------
بين سماء الوقت
وبين السجع
يناجى فى حضرته
ألا نغرق أكثر مما غرق القوم الغارق
يا آسرنا !! صــ7
? ثانياً : صورة النهاية
ومن يرتقب الزحف
إلى هودجه
الله الواضع ثقلاً من أجناد
أمما تسكن بين ثنايا الأرض 0 صــ8
تتلاقى مفردات السواد والضياع والانغلاق لتنفتح على احتمال السؤال المتروك ليس كيأس ، وإنما كعلامة بيضاء تنتظر تخليص الوحدة من وحدتها الأولى المأهولة بكل علامات التناقض اليومى المستمر ما بين الانقطاعين وما بين الحياة 0
يؤخذ على هذه القصيدة التى اعتمدت على نموذج إيقاعى متكرر تمثله ( هل ـ ما ؟ ) ـ مثلما تمثله كلمة ( نحن ـ نحمى ـ يحمى ) فى قصيدة (( عقيق ـ منابر القدس )) يؤخذ عليها ما شرحته فى الجملة الرابعة من ( صورة البداية ) (( بين سماء الوقت ـ وبين السجع )) ، فلو حذفت هذه الجملة ، لكان الإيقاع الانتقالي أسرع فى التحول والعبور من مفرداته السوداء إلى الإيقاع اللاحق للازمة ( ما ؟) 0
وتتداعى مفارقة الذاكرة بما حينها وحاضرها ، وبإنشطارها المجتمعى ( البوح / الرماد ) فى قصيدة ( ثلاثية البوح والرماد ) والتى تحمل ذات اسم الديوان و التى لا تبتعد عن مكتوبها ، ولا تنجر فيه انحرافا معينيا يمنح النص فضاءه 0 الشعرى ، بل تنسرد ضمن إيقاع اخبارى يرصد حركة الأيقون الزمكانى بضمائر تتعدد لتنشئ دالة اجتماعية تنشر متضاداتها من خلال ( أنتِ ) المخاطب ثم الغائب ( هى ) ثم النداء ( يا ) ثم لتعود إلى الذات الشاعر الراصدة لتحركات ضمير المخاطب ( أنت اصطفاء الخلائق / يحدق فى صدرها المنام ) صــ11 وتمتزج حركة العزلة فى قصيدة " تعميد آسن " بإيقاع الامتلاء بالحلم الذى ينتشر كمسافة خفية تتسرب من نبرة البياض النصى إلى سواده ، مانحة النص إيقاعاً يزحزح الوقت المجسد باللازمة ( ترقد ) صــ21 لينشئ وقته الهارب من الفضاء ( كزمكانية ) ومن أشجار وجدران ( كمكانية ) ، ثم ليجعل من البرد والخوف ( زمكانية ) تحتمل انوجاد النص فى مجالين 0
? أولاً : مـجال الـواقع المتدرج من أثره الخافت ( وهو ما تفصح عنه بداية القصيدة ) إلى أثره المرتفع
المبدوء بهذه الصورة :
ترقد فى الجنبات
وطرق تحفل بالغدران ،
فضاء من أجيال جلبت أن ترتعد 0
إذا داهمها الوطن الوطن ---------- صــ21
? ثانياً : مجـال الحلم الذى يستدرج الواقـع إلى دراميته بين ( الحمأ ) و ( الجذع ) و ( البرد )
و ( الخوف ) و( الزمن ) و ( الرجفة )0
ليشكل المجال الحلمى ( بؤرة ) فنية تنفتح فيها حواس اللحظة على افتراضات المخيلة ، هادفة من ميلانها نحو الغياب ، إنجاز مسافة تتناثر فيها الأنا الشاعرة المكتسبة بـ ( أنا ) القارئ ثم ـ وكطور آخر ـ إنجاز مسافة تلتحم فيها الأنوان ( الأنا المحيلة / الأنا المحال إليها ) ، وهذا ما تؤديه الحركة الأخيرة للقصيدة :
المطر دبيب الزحف
وصحوة ما ينساه الصهد 000
على عنوان الأرض
فمن يلقاه على شفرات الزبد ؟
ومن يهواه على شريان الجسد ؟
المطر عيون الخلق جميعاً 00 ما كوثره الخالق ،
ما جنده الوعد الصابر ،
ما صادقه القوقع بين ثنايا الموج ،
المطر حجيج الناسك حول جنون الصدفة ،
لا يلقانا
سوى تذليل للتعذيب
وما يهوانا 00
سوى تدمير للإرهاص 0 صــ23
وتختلف بنية الانقطاع السردى فى قصيدة (( الجذوة و الرماد )) صــ27 وقصيدة ( أجراس ومزامير ) صــ34 وقصيدة ( مرايا ) صــ50 وتتسم صوتيات الحركة فى النسيج القصيدى بانقطاع فى أفقية الذاكرة وفى بنية السرد الشعرى الذى يحقق أبعاده فى قصيدة ( ثلاثية البوح والرماد ) من تمحوره حول " البوح " المستقبل القادمة من ذاكرة تراثية ( العوسج السيناوى )
يهادنها كل شئ جميل
تصالح فينا العهود
تخبأ فى شدوها
كل ما قد تبقى من القوم
والعوسج السيناوى
تباركها خطوات تدب بكل ذهول
هى من سهول
فمن يستميل النهار عليها قبيل الأفول ؟
ومن يستجم بها 00 من عليك ؟ صــ12
تشكل هذه الصورة المشهد الثالث المؤلف بدورة ( خاتمة القصيدة ) ، كما أن النص يبدأ بها متلفتا حوله ليسرد ظنون الشاعر ( سمير محسن ) ، وهى ترتدى حالات الحياة النابعة من الذوات الأخرى : (( يا بوح أى يخاطب من سحرها أمة من بريق العيون / لها جلسة من نواميس شعب جهور لها هالة : من دروب الشفاعة )) 0
وهنا تنعطف الذوات الأخرى فى البنيات الحسية ، والرؤيوية والنصية ، كونها فى النهاية تختزل ذاك الرحل ـ الشاعر ، الذى يكثف انقطاعاته بضمير المفرد الغائب ، متجولاً بين الدلالات إلى ذات متعددة تتشابح بين ( بريق العيون ودروب الشفاعة ) بما فى هذه الرموز من امتدادات تتجه نحو النقيضين فى ذات اللحظة ، وبذات السرعة الانتقالية : نحو الوجود و اللاوجود ، ونحو الموت والفناء والعدم والحياة ، ونحو التلاشى والتكون ، ونحو التخارج والتداخل بين الذات والذات وكأن مفردة ( رجل ) تتفجوى مع كل ظهور لتكون ولا تكون :
من قصيدة ( سراديب النواميس ) صــ30
كما الأحلام نلقاك ِ
بها لات
تفوق البحر فى سبق التواشيح
سماؤك تأثر الأسرار 00 والأهوار
يا حسا من الأعماق نعشقك !!
فهل سر السراديب تجمع فى مآقينا
وهل محرابنا سدم ؟
فى هذا التشابح للشاعر الحاضر فى الغياب تتجسد العزلة وتحضر انتحاراتها ، وتتماوج ( الوحدة ) كنواة أولى تتراكب ( منها ، وفيها ) تحولات السكون والصمت والضجيج المعاش الذى يتحرك فى القصيدة بهيئة صور راصدة للوحة الأعمال العابرة من الرمز (( السراديب )) كمؤثر على اتجاه الطاقة الشعرية من خلال المكون البصرى الكامن بين الالتقاط والتصوير ، وإلى انوجاد المعادل الآخر ( مآقينا ) الهاجعة فى مسارب المخيلة ثم الانعزاف مع ظهوراتها الجديدة كــ (( بحر وأحلام ))
وفى الخلاصة نقول أن الإحساس بمسؤولية الكتابة واستعصائها والتواضع الجم أمام بياض الصفحة هو عتبة الشعراء الممسوسين بجمرة الخيال إلى رحاب الشعر الحقيقى 0
لذا لا داعى للاستغراب عندما نقرأ للشاعر سمير محسن ديوانه ((ثلاثية البوح والرماد ))
فهو شاعر ومفكر عميق 0000حقا ما من موضوع شعرى عميق إلا ويعثر ، طال العهد أم قصد ، على أفكاره المبتغاة ، وأيضاً على جماليته المناسبة ، وعضوية التعالق والتجانس والتضاد فى الديوان بين حد التفكير وحد الإيهام بين النص وجماليته ، تأتى من مقدرة الشاعر سمير محسن المفكر على ضبط منحى هذا التعالق الاستحكام فى نتائجه داخل ديوانه ((ثلاثية البوح والرماد )) كفكرة أى كإمكانية لتقليب معانى المرادفات الحقة ، الولاء للأرض الأولى سيناء وبالتحديد مدينة العريش التى أهداها ديوانه لأنه عايشها وعايشته منذ صباه بجميع متنا قضاتها وتقلباتها 0
كذلك تضامن الشاعر مع مجتمعه داخل نصوصه اللا مشروط مع مكابدات الناس وأوزارهم وأشجانهم ثم (( البوح ـ الرماد )) كاستعارة نوستالجية مدمية أى كإمكانية للعب المجازى بالكلمات والقرائن وزحزحة الطبقة الكيانية الطازجة فى الذات وتنقيتها مما علق بها من أدران برانية مدلهمة ، مغبرة ، وقاتلة و الإيهام بتملك ذاكرة هاربة ، منفلتة بصيغة موازية إدغام التفكير فى السيولة الشعرية 00التفكير بروية خيالية وليس بصوت متخشب ، يقينى ، متعالم 00 التغريب وليس التنميط المؤانسة الجميلة وليس الإفتاء العابس 00 التجوهر فى سيناء 00 تلك الرمز الذى شهد انبثاق أول مدينة فى التاريخ الانسانى 00 تمجيده ملء التفكير وتبجيله ملء التخييل 00 العريش أيضاً وأيضاً و أيضاً ، ذلك هو رهان هذه التجربة الشعرية الرائعة ورهان صاحبها المتميز (( سمير محسن )).
انتــــــــــهت