ط


الذات و الموضوع / واقعية السرد و انكسار الحلم

قراءة فى مجموعة "  الإنحدار إلى أعلى " القصصية 
للأديب : حسن غريب  أحمد 
 بقلم : إيمان عباس زيادة 
كاتبة وناقدة 
_______________

تمثل مجموعة الإنحدار إلى أعلى أنموذجا متميزاً فى عالم القصة ، لما تتمتع به من مزج الحلم بالواقع ، و الملهاة بالمأساة ، و الموج الجيد بين الأجناس الأدبية : المسرح ، الرواية ، الشعر  و مزج كل ذلك بالتيارات الحداثية فأخرج لنا عملاً ابداعيا مختلفاً  و هو – فى اعتقادى – سمة تميزه عن غيره ، و المجموعة تضم أربعة عشر قصة تمزج بين الواقع والحلم و قضايا الواقع الحياتية . 
كما يتميز السرد بشفافية التناول و اعتماده على  التراكم النغمى لزخم المفردة ذات الفونيم الصوتى الحالم ، كل ذلك فى اطار عالم مغلف بأحلام رومانسية لشاب يعيش الواقع و همومه .فنراه يتحدث عن المجتمعات الفقيرة وما يصاحبها من قضايا الفقروالحرمان و سوف نتناول بالدراسة عدة محاور متباينة و كل محور يجمع بين طياته العديد من القضايا المختلفة منها : 
واقعية السرد و قضايا مجتمعية 
الحب و الموت و صراع الذات 
علاقة الذات بالموضوع 
الجمال و فلسفة المشهد السردى 
و مع تباين تلك المحاور إلا انها تضم فى مجملها اطارا من العلاقات المتشابكة مما يصعب الفصل بينهما 
أولا : واقعية السرد و قضايا المجتمع : 
يحاول الكاتب فى مجموعته التعرض للقضايا التى تمس المجتمع ففى قصته " انتقام الزمن الردئ " يحاول أن يهرب من بوابة الفقر إلى الذات المهزومة للطالب الفقير فى مجتمع الجامعة : " تبوأ ركنا قصيا و كانه أراد أن يتوارى عن انظار الطلبة و الطالبات ، يلوذ منهم فراراً حتى لا تكويه نظراتهم الطاعنة لثيابه الرثة  سوسن الطالبة الثرية تجلس  أمامه ، يتمايل عليها حشد من صويحباتها ، يتبادلن فى دلال أنثوى مجموعة من الصور  خطيبك شيك جداً ، بدلته غاية فىالشياكة "  فهو هنا – قد انتقل بنا من قضية الفقر المادى إلى قضية الطبقية ، فالمجتمع الرأسمالى الذى تمثله " سوسن " و الطبقة البرولتيارية المتمثلة فى شخص الطالب تجعلنا نقارن و ندرك مدى التفاوت الطبقى فى الجوهر و كذلك فى المظهر : " الثياب الرثة " ، " البدلة الشياكة " ثم يتعرض للعديد من القضايا مثل : قضايا الايجار و علاقة المؤجر و المستأجر ، مستوى الأسرة المنخفض مادياً ، المعاناة من القوت اليومى و التعامل مع البقال و الجزار وبالأجل و غيرها من القضايا التى يتعرض لها الفرد فى المجتمع الفقير  إن واقعية السرد تتبدى فى عفوية الأسلوب و بساطته و مدى تعبيره بصدق عن الحدث لذا يكثر من استخدام أفعال المضارعة : " يقترب من بيته ، يدفعه فضوله للإقتراب ، يرى والده بين يدى المعلم حسان ، يهزه بعنف ، يعض على نواجذه ألما و حسرة ، يهرع إلى البيت ، يدفع باب الشقة الإبداعى : صورة و تكوينا و ايحاء بالمعنى و رصد ذلك كله فى نسيج لغوى يتمثل فى " تيار الوعى " الذى يحاول الكاتب أن يؤطر له من خلال منظور تخيلي موشى بذاتية غائبة / حاضرة لأزمات النفس مع الاتكاء على المكان و الزمان فى إنسيابية ، و لكن الاحباط الداخلى نتج عن تخلخل العلاقة بين الذات و الموضوع فوجدنا اللغة مباشرة و التراكيب مجملها تراثية فالفن هنا له وظيفة اجتماعية و تنويرية معا ، و لذلك جنحت عناوين قصصه إلى المباشرة مثل : " تداعيات إشكالية – وجه ملائكى – عفوا حبيبتى إنه القدر – إنها حقا جميلة و لكن – زهرة شبابى – وقوع الكارثة – المكتوب على الجبين – قبلة حب – الطابور " و فى رأيى – أن هذا النوع من القصص يتسم بالسطحية و الاستطراد فى الوصف السردى للحدث و يوقع الكاتب فى أخطاء المباشرة مما يجعله يستخدم الصور التقليدية و الجمل المتكررة ، كما يغفل جانب الخيال ، مع انه يقصرنا على المألوف و الحياتى اليومى دونما تجديد ، و أحسب ان الكاتب فى غفلة من ذلك نظراً لتبادل الأدوار فقد وضع نفسه -  نتيجة اندماجه فى السرد – مكان البطل فوقع فى الذاتية المغرقة   و أغفل الموضوعية التى يتحلى بها نتيجة  للدور المتبادل بينه و بين هذه الشخصية للبطل . 
اى ان إغراق الكاتب فى الفردية – الذاتية – قد احدث توحداً بين زمن الفعل و الحدث و الكتابة فى مثلث اكتملت أضلاعه ، و لقد توحد أسلوب القص فى وحدة  زمانية و مكانية مترابطة نتيجة لهذا الإحلال الإندماجى بين الراوى و البطل . 
ثانيا : الجمال و فلسفة المشهد السردى : 
 تبدو العلاقة أكثر تكاملاً و اتساقا بين جماليات الصياغة و فلسفة السرد مما يعطينا مشهداً بصريا أكثر تأزراً  ، كما ان نمطية الحركة الحوارية و إنسيابية الحوار يدلان على ثقافة الكاتب و فلسفته و نرى ذلك متجليا فى قصته . 
" قبلة حب  " : "  صدقنى الحب شئ من الصداقة  و الصداقة هى كل الحب  الحب قمة الأنانية  قاطعها  بنظرة حانية : الحب هو العطاء  الإزدواجية  هو ألد أعداء الأنا  هم بأن يقبلها بين عينيها أشاحت بوجهها و صاحت غاضبة : أرأيت الحب تبادل قبلات  و الصداقة تبادل أفكار و عواطف سامية .
كما نلمح فى قصته " شبح سعد " ملامح الكاتب الذاتية مجردة من العواطف و الحب : " أدرك أننى لا أحتمل بقاء طفل بين يدى أو على كتفى دقائق حتى من باب المجاملة لوالديه " و هنا تتجلى الشخصية عارية و تكشف عن نفسها و لذلك نراه يحب إبنه أخيه الصغيرة أسماء و يقبلها و يحتضنها لا لشئ و إنما لأنها تشبه حبيبته ومع أنه لا يحتمل الأطفال إلا أنه يجلس مع هذه البنت و يلاعبها فالهدف هنا ليس العطف و إنما ليرى فيها حبيبته الغائبة . 
بقدمه ،  يرتمى على سريره المتهالك ، يتهادى  إلى مسامعه صوت أخيه : عم حنفى مش عايز يدينى العيش و الحلاوة على النوتة  ، كما نلاحظ واقعية التعبير و بساطته و عمقه فى التعبير عن البيئة المعاشة 
ثالثا  : الحب و الموت و صراع الذات : 
 يأخذنا الكاتب إلى الموت الحقيقي فى قصصه : " إعتراف – الإنحدار إلى أعلى – القدر المحتوم " و الموت عنده يأخذ منحنى جديداً ، فليس الموت موت الجسد فحسب ، بل الموت موت الروح و فقدان الذات و الضمير ، و الحب – عند كاتبنا – هو المقدمة الأولى التى تستدرجه للصراع النفسي ومن ثم نهايته : " ليلة العرس اتضح لى أننى أكبر مغفل  فلقد كانت فاقدة بكارتها " و تتجلى هذه المأساة فى انتقاله من حالة السعادة المتمثلة فى حلمه بالزواج إلى كابوس مزعج يلاحقه ؛ إنه موت نفسي للذات الحالة . 
و يتجلى الموت بعد ذلك فى قصته " الإنحدار إلى أعلى " التى تحمل اسم المجموعة – بالقتل و الندم و تأنيب الضمير فرأينا حمدان يقتل شقيقته و يندم و يلاحقه ضميره الذى يؤنبه : " حمدان ما الذى دهاك " الليل أمامك و لا أرى خلفك غير صحراء واسعة مليئة بالعواصف و الضباب  لا يمكن   أن تكون  قطعة جليد  تحارب  خيوط الشمس  الحارقة " و نراه فى " القدر المحتوم ""   ينظر متأملاًُ   ذلك العجوز الذى يخرج مبكراً ليشترى جريدة الصباح ، ثم نرى التحول السريع إذ تصدم العجوز سيارة مسرعة فيموت و لا يجد امامه ما يغطى به الجثة سوى جريدة الصباح ، إن الموت عند كاتبنا لا يأتى إلا مع الحلم ، فحلم الفتى فى الزواج تقابله صدمة فقد العذرية ؛  و حلم حمدان فى جمع المال تقابله صدمة قتل شقيقته و حلم العجوز تقابله صدمه السيارة ، فترى الحب ممزوجا بالصراع مع الذات و الذى يؤدى فى النهاية إلى الموت. 
و على الرغم من الجانب الفانتازى المتجلى فى واقعية السرد إلا إننا نلمح تضافر عناصر فنية ثرية كالحلم و الغربة و الحوار الغنى بالمفردات ذات الجرس المتناغم علاوة على الاهتمام بسيكولوجية المعنى المتمثلة فى محاولة إنسلاخ الذات من هموم الواقع توقاً للتحرر و الحرية و لو جاء الموت محققا لهذه الأمنيات الذاتية  

رابعاً : علاقة الذات بالموضوع  : - 
 إن حميمية العلاقة بين الذات و الموضوع تتجلى – على مهل فى مناطق كثيرة و ربما يحتد الصراع بينهما ، فالذات تمثل الفكر و الوجدان بينما الموضوع يحيلنا للواقع و متغيراته المادية و المعنوية ، و يتجلى ذلك فى التشكيل الفنى للعمل و فى قصته " شبح سعد " يتناول موضوعا غير مطروق كثيرا ً فى الأدب و هو تلك العلاقة الحميمة بين الإنسان و الحيوان بين أسماء و خروفها الذى أسمته سعداً و التى تداعبه كل يوم و تعتليه و تقدم له الطعام و كانت الصدمة فى ذبح سعد يوم العيد : " استيقظت أسماء يوم العيد فلم تسمع له صوتا ، أخذت تفتش عنه فى كل الحجرات و تصرخ فى وجهى أين سعد ؟ أين خروفى يا خال ؟ " 
إن هذا الموقف المؤثر يجعلنا نفيق إلى الصدمة التى تعرضت لها الصغيرة التى سببت لها مشكلة بعد ذلك فى هروبها كل عيد إلى بيت عمها و تظل تبكى و كلما آتى خالها تسأله أين سعد يا خال ؟ و نرى عقدة الذنب و تحول المشكلة فمنذ أن ذبح الخروف و هو يؤنب نفسه و لا يأكل اللحم  فإذا راى لحما فإنه يتقيأ و يهرب و يتذكر سؤال الصغيرة فيترك البيت إلى بيت عمه ، أحس الجميع بالمشكلة و أمسكوا بالخال و غمسوا يديه فى دماء خروف العيد و جاء أحد الشيوخ و قرأ عليه آيات القرآن و همس فى أذنه بكلام كثير و بعد مدة آفاق الخال و نراه يطلب اللحم بنفسه : " أخذا أفتش عن جدتى و أطلب منها بإلحاح نصيبي من لحم سعد و أضحك وجدتى تمد يدها فى القدر و تدعو لمولانا : " ومازلت اهضم و أضحك ومازالت الصغيرة  أسماء تسألنى و تصرخ و أنا لا أستطيع الجواب و لا أجرؤ على قتل حبيبتى أسماء " 
إنها قصة تحمل فى طياتها  أنبل معانى البراءة الإنسانية و تدل على مدى شفافية الحب و الوفاء   إنها عاطفة سامية نجح الكاتب  حسن غريب  أحمد فى أن يصورها   لنا فى ثوب جميل رائع. 
لقد نجح كاتبنا  حسن غريب أحمد فى خلق فضاءات جديدة للقصة و إن أعتمد على الواقعية إلا أنه اتكأ على هموم العصر فعزف عليها اوتاره و نقلها لنا بصورة فنية رائعة ، مما تجعلنا نعيد النظر إلى الواقعية بصورة أكثر جدية وثقة فى قدرة الكاتب على خلق عالم جديد قوامه الحب والجمال .