علي بانافع
ما يُعرض على بَعْض الفضائيات ومنصات التواصل الاجتماعي من برامج وحوارات تاريخية ذات صبغة طائفية أو مذهبية يثير الاشمئزاز والتقزز، فالمتحدثون في تلك البرامج والمواقع يدعون أنهم مؤرخون، وهم في الحقيقة مسخرين لبثّ السموم وممارسة العهر التاريخي الفاضح وإذا كان بعض مشاهدي هذه البرامج والحوارات يدركون الهدف منها، ومن يقف وراءها ويموّلها -وهم قلّة- فإن الغالبية العظمى تتلقّاها بالقبول والتصديق، وذلك بسبب من الهالة الإعلامية التي يُحاط بها هؤلاء "المؤرخون الجهابذة" وما يتسنمونه من مراكز تاريخية أو فكريَّة، جعلتهم في نظر العامّة محطّ اهتمامٍ وموضع ثقة، ولكنهم في الحقيقة لم يُحاطوا بما يُحاطون به من اهتمام ودعاية إعلامية، ولم يوضعوا في مواضعهم هذه؛ ولم تُحدث لهم هذه المراكز؛ إلا لينفذوا ما هو مرسوم لهم؛ بقول ما يقولون لأن عقولهم ليست إلا صناعة أجنبية بحتة، وما أفكارهم سوى بضاعة مدفوعة الثمن من بنوك التآمر على الأمة العربية والإسلامية، وفي مقال سابق بعنوان: "جناية وسائل التواصل الاجتماعي على التاريخ" قلت: (إن الباحث الذي يتجول في صفحات التاريخ يستمد دروساً لا تقل أهمية عن تلك التي يستمدها من التجول في أنحاء المجتمع، وبعبارة أخرى إن تجول الباحث في الزمان لا يقل نفعاً عن تجوله في المكان كلاهما يمده بالمعلومات الضرورية لفهم طبيعة التاريخ وحركته).
الحقيقة التاريخية المنقولة على وجه اليقين نادرة وعزيزة إلا ما ثبت بالأسانيد القطعية، وأغلب التاريخ عبارة عن مبالغات وأكاذيب أفتراها الإخباريون ولهذا قال ابن تيمية: قال الإمام أحمد: (ثلاثة أمور ليس لها إسناد: التفسير والملاحم والمغازى) ويروى ليس لها أصل أى إسناد لأن الغالب عليها المراسيل. (المجموع، 13/345)، لذلك فبعض الشخصيات ما تزال تعيش في الماضي، وتصر على تفسيرات لا تغني ولا تسمن من جوع، لروايات تاريخية مشكوك فيها ولو صحت فقد مات أهلها منذ مئات السنين ولا علاقة لجيلنا بها، ولا تلامس حاجة الشباب والجيل الجديد لا دينياً ولا دنيوياً، فلو عاش إنسان ألف سنة ثم مات ولم يسمع بصفين ولا بمعاوية ولا بعلي رضي الله عنهما؛ لما كان دينه ناقصاً ولن يسأله الله تعالى عنهما يوم القيامة، ولكن يسأله عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وطاعته لا غير.
من علامات التدليس والمبالغة في كتب التاريخ لدى المؤرخين، أن الكاهنة "ديهيا" زعيمة قبائل البربر في مواجهة الجيوش الأموية كانت تحارب المسلمين ولها من العمر 127 سنة، وأنها لما انتصرت عليهم في المرة الأولى كانت قد تبنت وأرضعت طفلين أو أكثر بمعية ابنها وهي في عمر 124 سنة، وهذه من خرافات المؤرخين التي لا يمكن أن يثق بها أحمق فما باك بالعاقل، ومن الأمور التي يجب إعادة النظر فيها، أن القائد الحربي كسيلة بن لزم البربري أسلم وحسن إسلامه، وأن القائد الفاتح المسلم عقبة بن نافع رضي الله عنه بعد رجوعه من عاصمة الخلافة الأموية نكل به تنكيلاً مفرطاً بسبب صحبته لأبي المهاجر بن دينار، وأن ابن دينار حذر عقبة من عاقبة ما يفعل، لكنه استمر في فعله حتى دبر كسيلة طريقة لقتله في تهودة، إلا أن المصادر التاريخية لم تذكر أبدا أن كسيلة ارتد، ولم تذكر أنه في حربه وحصاره للقيروان قتل النساء والأطفال، وهنا نقف على احتمال أن تكون الحرب بين الجيوش الأموية وكسيلة في تلك الفترة حرباً سياسية لا دينية والله اعلم.
على المؤرخين اليوم أن يخرجوا من القبور التاريخية إلى نور الحياة، وأن يقتنعوا أن العقلية التاريخية الماضوية، التي لم تغادر التاريخ لتعيش العصر ستبقى عاجزة عن ملامسة الواقع والاستجابة لتطلعاته واستحقاقاته، وأنها لن تكون بديلاً عن البرامجية التي تتعامل مع آمال وتطلعات الجيل الجديد، وتقوده بنور العلم نحو النجاح وتضع الحلول لمستقبله، وتؤمّن الحياة الكريمة له، فتزوير التاريخ في هذه الأيام بضاعة رائجة لآكلي السحت الحرام بنوا بها بنايات وصنعوا منها استثمارات!!