Image title

علي بانافع

     عقدة الكمال وهو ما يطلق عليه العامة بالوسواس موجودة في كثير منا على درجات متفاوتة، ولكنها تصبح في بعض الأفراد مرضاً شديد الوطأة يصعب شفاؤه فالكمال في كل شيء أمر مستحيل!! لأن الكمال حقيقة ووجوداً من صفات الله وحده جل وعلا، وكل فرد منا يحاول أن يُجِيِّدَ عمله وأن يقوم به على الوجه المطلوب، بل ويريد أن يستكمل العمل الذي يبدأ به، ولكن هذه الإرادة قد تتحجر فتمسي عقدة نفسية، إذ يأخذ المصاب بها بالتدقيق الشديد في كل عمل يقوم به، بغض النظر عن الغاية التي يرجوها منه، إنها عقدة نافعة إذا كانت معتدلة ومبنية على أساس الروية والتبصر، ولكن الإنسان مع الأسف يندر أن يسير في أعماله على أساس الاعتدال والروية، فإذا اعتاد الإنسان على أن يدقق في عمله قد يَصْل به حب التدقيق إلى درجة الإفراط، وتجده عند ذلك يدقق من أجل التدقيق ذاته وينسى الهدف الذي يدقق في سبيله، إن هذه العقدة تُعَدَ من أكبر عوامل الفشل في الحياة، فصاحبها لا يستطيع أن يقوم بعمل إلا بصعوبة، ذلك أنه ينظر ويعيد النظر في كل جزء مما يعمل وتراه يهمل الاعتناء بالأصل في سبيل الاعتناء بالفروع، أو هو ينسى الغاية ويهتم بالوسيلة وكثيراً ما ينتفي الغرض من مشروع كان قد بدأ به، فمن طبيعة الحياة أن تكون ناقصة لكي تسعى في سبيل سد هذا النقص فلا تقف؟!

     الحركة أصيلة في طبيعة الكون وما السكون إلا عرض أو وهم لا وجود له، والذين يؤمنون بوجود الكمال في كل شيء هم الغالب من ضحاياه، وكثيراً ما يكون النقص أنفع من الكمال للإنسان، فالإنسان الذي يتحرى الكمال فيما يعمل هو مريض يجب أن يعالج، وهو كلما اشتد في تحري الكمال ابتعد عنه، ونحن لو درسنا حياة الناجحين لوجدناهم أثناء العمل غاية في الهدوء والاسترسال، فتراهم يعملون كالأطفال الذين شغفوا باللعب فانهمكوا فيه، وغفلوا عما حولهم من الناس والأشياء، فالكاتب الذي ينغمر في كتابة مقال له مثلاً لا يجوز أن يقف أثناء الكتابة ليفاضل بين الكلمة وأخرى؛ فيجب عليه أن يجري على سليقته حين تجيش به القريحة وهو لو وقف في كل كلمة يكتبها لضاعت عليه الفكرة وأصبح في حيرة من أمره، فالكمال أمر اعتباري ونسبي فما هو كامل اليوم قد يصبح ناقصا غداً وما في كامل في نظرك قد يعد ناقصاً في نظر غيرك، والذي يتحرى الكمال في ما يعمل يكثر تردده فيه؛ فهو لا يكاد يُقِرْ على رأي حتى يتراءى له رأي آخر ولا يستحسن شيئاً حتى يبدو له وجه جديد من ذلك الشيء فيصرفه عنه، إن ما يفعله هو أن ينساب مع السليقة ولا يبالي حينذاك أن يخطىء، وربما كان النقص الذي يجري مع السليقة خير من الكمال الذي يتكلف فيه، ومما يروى في مجال الكتابة أن أحد الباحثين ألف كتاباً وكان هذا الكتاب رائعاً في بعض أجزائه ورديئاً في الأجزاء الأخرى، فسئل في ذلك وقيل له: "لماذا لم تتحرى الكمال في جميع أجزاء كتابك، حيث كان الجدير بك أن تحذف الجزء الرديء وتبقي على الجزء الحسن منه؟! فأجابهم قائلاً: "لو لم اكتب الجزء الرديءمنه لما استطعت أن اكتب الجزء الحسن!!".

     وقد أصاب الكاتب في هذا القول كبد الحقيقة، ذلك أنه لو كان يتحرى الكمال أثناء الكتابة -كما كانوا يطلبون منه-لأُصيب بالجمود ولأخرج كتاباً فارغاً لا خير فيه؛ فهو لو لم يجرؤ على الخطأ ويستسهل النقص الذي ظهر للناس في بعض أجزاء الكتاب لما استطاع أن يصل إلى الكمال في أجزائه الأخرى، ولذا قيل: إن الخطأ طريق الصواب، والفشل طريق للنجاح، فإذا كنت لا تتحمل ظهور الخطأ والنقص والفشل في عملك كان عليك أن لا تنتظر ظهور الصواب والكمال فيه!!، فمن الخير إذن أن نتجنب الحرص والتعمد والتكلف أثناء الكتابة والعمل عموماً؛ فالمبدع هو الذي ينغمر في عمله ويذوب فيه، إنه لا يريد أن ينجح في عمله ولا يقصد الكمال في أدائه فهو حين يعمل لا يشعر بنفسه ولا يحس أن له قصداً يسعى وراءه إنه يصبح أثناء العمل كأنه جزء من العمل فهو يسير فيه منساباً على سليقته فيقوده ذلك إلى الغاية المنشودة من حيث لا يدري ...