«بروفات» عفاف السيد
بقلم: حسن غريب 

وجوه متعددة للشخصيات
عالم الأدبية عفاف السيد القصصي رحب وثري يحتاج إلى العديد من الدراسات النقدية لاستكشاف جوانب هذه الرائدة الفنانة التي أصلت فن القصة الحديثة في مطلع التسعينات – ومازال عطاؤها مستمراً بقوة وحيوية وأستاذية.. صدر من قبل للأديبة عفاف السيد أربع مؤلفات هي "قدر من العشق" قصص – عن الهيئة العامة المصرية للكتاب 1994 ورواية "السيقان الرفيعة للكذب" دار قباء 1998 و"سراديب" قصص – عن مركز الحضارة العربى 1998، ثم المجموعة القصصية الاخيرة "بروفات" الصادرة عن سلسلة أصوات أدبية بالهيئة العامة لقصور الثقافة 1998م – إلى جانب ما يصدر لها في المجلات والصحف الأدبية المتخصصة من قصص قصيرة يوماً بعد يوم. أولاً : تطور وعي الشخصية القصصية عفاف السيد تتميز بحسها الفني الرقيق وذوقها المثقف ورهافة اللفظ .. وبراعة تصوير المواقف التي تكشف عن أبعاد الشخصيات التي ترسمها بدقة وتبرز أبعادها الاجتماعية والنفسية والخلقية .. وتكشف عما تعانيه من صراع مع نفسها.. أو مع الآخرين.
و لأن هذه الشخصيات سوية وواعية لها ضمير حى يقظ تخرج من أزماتها منتصرة على نفسها في لحظات الضعف وهذا أقوى الانتصارات على النفس أو على الآخرين .
و الملفت للنظر حقاً في سلوك هذه الشخصيات أنه سلوك طبيعى لا افتعال فيه تتعرض للحظات تكون فيها قوية ولحظات تكون فيها ضعيفة ولكن نرى عفاف السيد في لحظات الضعف التي تتعرض لها شخصياتها سواء بسبب اجتماعي أو بسبب العلامات الجنسية التي تتناولها الكاتبة بشكل طبيعى يدير الصراع الداخلى بين الخير والشر حتى يكون لانتصارها معنى وعبرة للآخرين. وتبرز أيضاً أن هذا الانتصار لم يجئ عفواً ولكن نتيجة حتمية لتسلح هذه الشخصيات بالأخلاق والثقافة ولتؤكد أيضاً أن الخير هو الأساس في الإنسان وبهذا الخير تستمر الحياة – وتتأكد العلاقات بين الناس.
وعفاف السيد لا تعرض نفسها على شخصياتها ولكنها تفصح بنفسها عن أفكارها بشكل طبيعى من خلال الحوار المناسب لعقلها ومن خلال المواقف التي تتحرك فيها بطبيعة، كما أن الكاتبة تقدم شخصياتها من تجارب عاشتها بنفسها أو تجارب سمعتها عن الآخرين تتمثلها الكاتبة تماماً ثم تخرجها بعد ذلك عملاً فنياً والمعروف انه "لا يوجد عمل فنى إلا وله ماضى في نفس صاحبه، هذا الماضى هو تجربة قديمة مرت بهذا الشخص فتركت أثاراً في نفسه، هذه الآثار قد تخفى من السطح ولكن لا يعنى أنها ماتت". ثانياً : صورة التكوين النفسى وتوظيفها فنياً : تتجه الكاتبة في أغلب قصصها إلى العالم الداخلى النفسى للشخصيات، ولا تحفل كثيراً بالواقع الخارجى إلا بمقدار ما يحفز الشخصية إلى الارتداد لذاتها وذكرياتها وأزمتها الحاضرة.
و لا تشغل الكاتبة نفسها بما يشغل به كتاب آخرون أنفسهم من رصد لأحوال أو قضاياه أو علاقة الناس بعضهم ببعض، بل تقدم شخصية تعيش لحظة نفسية متوترة أو متأزمة تتصل عادة بحدث بعينه من الواقع بل تنبع من تكوين نفسى ممتد كامن يستثيره حاضر عارض، وترسم الكاتبة أبعادها من خلال عرضها لهواجس الشخصية وحواضرها وذكرياتها.
و قد تزاوج الكاتبة بين العالم الخارجى الذى تتحرك فيه الشخصية ووجودها الباطنى النفسى، لكن عناصر العالم الخارجى تبدو مختارة عن قصد لكى تحفز الشخصية إلى ما تفكر فيه أو تشعر به، فليس مشهد طبيعى مقصود لذاته ولا شخصيات ثانوية تعنى الكاتبة برسم ملامح مميزة لها، بل تبدو كل عناصر القصة كأنها مجرد مفاتيح لذلك العالم النفسى المغلق على ذكريات الماضى وهواجس الحاضر وقد تتوالى "جزئيات" العالم الخارجى وتكثر حتى لتوحي بان الشخصية قد خرجت من كيانها الفردي المحدود إلى محيط اكثر سعة واشد ارتباطاً بالحياة والناس لكن القارىء إذا تدبر أمر هذه الجزئيات يدرك إنها تدور كلها في فلك اللحظة الشعورية الباطنية،وإنها تشترك جميعاً في "تعميق" إحساس الشخصية بأزمتها أو هواجسها. ثالثاً :استدعاء العناصر الممتزجة داخلياً وخارجياً : ولعل خير نموذج لهذه السمة الغالبة على طبيعة "التجربة " القصصية عند عفاف السيد يتمثل في قصتها "جروح قديمة" التي تنبىء مطلعها بذلك الامتزاج بين الخارج والداخل، أو باستقبال الخارج كما في الداخل من ألوان المشاعر .
- وهى في الأغلب ألوان قائمة تختلط فيها الحقيقة بالأوهام :"بيتي القديم،وحبيبي القديم،وسلمات أتابع صعودها فتتهاوي ولا يبقى من المدينة سوى ما قبضت عليه روحي وأنا أعدو خلف الأيام الكثيرة- في غير تذمر – التي تكلست في خيالي،ويتفشى الحنين في ليلاتي لمجرد وقفتي ملتصقة بجدار بيتنا – والرؤية غائمة- أخفى وجهي بيدي ويجري الصحاب،يختبئون في أماكن كلنا نعرفها،وفي كل مرة نصنع مفاجأة ونضحك، وفي كل مرة أجرى اختبئ عند بيتك يا صلاح، تأخذني من يدي ونهرب في زمن كل مشكلاتنا فيه أن تنادينا أمهاتنا فنهرب بالحجج لنبقى دقائق معا ً، مجرد دقائق ما كانت لتكلف المدينة شيئاً،لكنك كنت تتركني عند باب بيتنا،
- تناديني جدتي فأستتر بالحكايا من بعدك.
- وتأخذها الغربة ثمانية وعشرين عاماً لم تسكن هدهدات أمواجها براكين الغضب.. فتتحول الرحلة الجميلة القصيرة إلى رحلة نفسية طويلة بعضها رصد شعوري حاد للخارج وبعضها أحلام يقظة،وينتهي بعضها إلى ما يشبه الكابوس ويبدو استخدام الكاتبة لعناصر الواقع الخارجى مفاتيح لذكريات الشخصية أو وجودها الشخصي منذ بداية الرحلة "اشق عتمة السنوات واخرج متلصصة،عند المنحنى أجدك فارداً عيونك على كل المخارج التي يمكن أن تحملني إليك،تمد يدك وتأخذ أصابع الملبن والعيش المقرمش، تقضم، وبنظرة جانبية تلمحني والمحك..
- وتشعر الشخصية القصصية نفسها بما للخارج من قدرة على ابتعاث الهواجس الداخلية وحب الأرض ومن عليها، فحين تفك حزمات الوقت وتصنع طريقاً إلى السويس "على المشارف ألمح كتلة اللهب ساكنة في الفراغ، وعيونك هناك منطفئة وعالقة بروحي، وشظيات قلبي تحوم في الخلاء، وألمح رؤوس النخلات المجهولة تهرب من عيوني السائلة عنك".
- وفي تيه العودة إلى السويس وقد اشتدت بالبطلة هواجسها الباطنة لا يصبح الخوف خوفاً عادياً مما يمكن أن يستبد بفتاة ضلت طريقها في ظلمة الليل إلى بلدها.. بل يتحول في كثير من الأحيان من شعور طاغ إلى " أفكار " سيطرت طويلاً على الشخصية وانبثقت في تلك اللحظة مستجيبة للخوف وللسيطرة عليها في آن :"يستطيل الطريق إلى السويس، أحاول ألا أبكي كي لا أساقط ملامحك التي خبأتها من السنوات، على برودة الطريق المحايد، "لماذا الطرق إليك محايدة يا سويس؟ مع انك فيضان الم وطغيان" وحين يضعف شأن الخارج في اللحظة الحاضرة، ويصبح مجرد يلقى في اللاشعور فيثير دوامات لا نهاية لها، ينبثق الماضى في أكثر لحظاته دلالة على وجود الشخصية النفسية وأشدها تأثيراً في بناء شعورها وتفكيرها وموقفها من الحياة لذلك لا تكاد تخلو قصة لدى الكاتبة من موقف أو أكثر تسترجع فيه الشخصيات بعض لحظات ماضيها ثم تعود لحظتها الحاضرة مرة أخرى، وكما يحدث في التحليل النفسي حين ينبثق مكامن الشعور وأغوار الماضي بعض التجارب المنسية الأليمة، تكون تلك اللحظات الماضية عند الشخصية مشحونة بالألم أو الكآبة أو ناطقة بالمفارقة بين الماضي والحاضر. رابعاً :البناء الزماني والمكاني : ففي قصة "بروفات " والتى تحمل عنوان المجموعة القصصية..امرأة تعشق رجل متزوج وهي تستطيع أن تظلل حاجبها وان تستخدم الروج الباهت حتى لا تكتشف زوجته مكانه وهى تتابع الركض في حضنه ولن تترك آثارها في أي من مناكبه00 لذلك تحثه على الاتصال بها للقاء حار.. بهذا التردد الدائم بين الماضي والحاضر تتيح الكاتبة لنفسها أن تظل بمنأى عن تفصيلات الواقع الخارجي، اذ تنتقي من الحاضر أحفل لحظاته بالشعور النفسي الداخلي، وينبعث من الماضي أنسب لحظاته للحاضر،وتقتنص موقفاً صغيراً أو مشهداً بعينه من الطبيعة يعمق شعورها وشعور القارىء باللحظة الحاضرة.
حتى حين تبدو القصة وكأنها خرجت عن هذا الإطار النفسي لتتابع شخصية واقعية مثل قصة"ولد طويل يعود لآخر الفصل "لا تلبث ملامح الواقع أن تغيم في رؤى مختلفة لتلك الشخصية.. يراها بعض أصدقائها ومعارفها كل حسب تجربته معها.. حتى تنتهى إلى أن تكون شخصية يصعب أن يحدد القارىء، لها وجوداً "واقعياً " خاصاً.
- ومنذ بداية القصة تبدو رمزية الشخصية في عبارات شعرية تشير إشارات عجلى إلى "ذكريات الماضي" :"الشيطان هو الأجملى.أضع يدي حول وجهي ابحث عن متكاً لأمنياتي في عينيك، ولما لم أجد سوى الحكايا، أوزع ذراعي ما بين المنضدة وانبهاري بك ..هل تسمح وتعيد سرد حكاية الشيطان؟!
تلمسني ببراءة طفل في الابتدائية وتعود لآخر الفصل، ولأنك ولد طويل، فالأحلام تتقدم نحوك ولكنك تتوقف عند حافة اللمسة وتكمل السرد،فيضحك الرفاق.."
والحق أن اللغة والأسلوب محوران أساسيان لهذه المجموعة القصصية من القصص النفسية الخالية من الوقانع والأحداث المادية ذات الشأن .
والكاتبة تعتمد اعتماداً ظاهراً على رصانة "العبارة وانتقاء الألفاظ ذات الايحاءات النفسية الخاصة، وتصل في احتفالها بالأسلوب إلى مشارف الشعر، حتى لتجىء بعض عباراتها من الشعر الموزون دون قصد وقد تنتفع في بعض تعبيراتها بشي من الكتب الروائية والشعرية العالمية ..وقد تبنى عباراتها من جمل قصيرة تبدو في أغلبها منقطعة وأن أسلمت إحداها إلى الأخرى عن طريق الإيقاع أو اللفظ المشترك أو نمو المعنى أو الصورة ويبدو ذلك جليا في قصة " بدائي".
:"ستضحك، حين لن يكون متاحاً لك سوى الحزن الأنيق، ستبدأه هكذا،ثم تكتشف وحدتك ومعها مبررا قوياً للصراخ، فتقول بين نفسك، وما المانع في اجتراح الوقت بشظيات القلب الملتصقة بالقرار، اتركها الدمعات تلهب جروحك وتنثال مع نزفك إلى البراح ..تقرر عدم الكتابة إليك لأنها ترغب في رسم خرائط شبقها فوق جلدك، وسكب جنونها في مسامك "و"الشبق "و"الجلد"ومشتقاتهما ومرادفاتهما لفظان محوريان يدلان على قطبين من الشعور الداخلي المتأرجح بين الإحساس بقسوة الحياة، وبردتها والحلم بالدفء من البرودة والحنان من القسوة. خامساً : طبيعة الوصف والأسلوب واللغة القصصية : وقد تبالغ الكاتبة في تجسيد الشعور الطاغي بالتأرجح بين الوجه والدهشة،بين (عفاف وعادل ) فتنساق وراء صور لفظية ومجازات مصطنعة تجىء عن طريق قولها في مطلع قصتها "عادل يقطف الورد ":" اكرر " عادل في الحديقة "، "عادل ولد نشيط " ترتج السماوات القديمة،يصدح فناء المدرسة العجوز : "طلعت يا محلا نورها.. "
"البنات يغنين ويضعن أيديهن تحت وجوههن مرة، ثم يفردنها باتجاه الشمس فارجع للوراء، واختبىء خلف الشعاعات".
ومن تلك الألفاظ التي تتردد في قصص الكاتبة لتكون مفاتيح لبعض مغاليق الشعور الداخلي لفظ يدل على توقع ما قد يأتي به الغد من خير أو أمل أو حب أو طمأنينة،هو " الإتيان " تقول في قصة تباديل ".
:"وأنا حين تدق الباب ينفتح قلبي وألقاك في بداية البراءة ثم أتواري عنك لأنك ما زلت في نفس المساحة تدفع الجدران فيختنق جسدي بعطش ابتعادك،ولا أبدو في مراياك إلا وأنا بكل ذلك الضعف " ولعل استخدام هذا المصدر غير الشائع صورة من استخدام الكاتبة للغة على نحو فيه سعى مقصود وراء الابتكار وأصالة التعبير .وهي توفق في سعيها في كثير من الأحيان ولا تكاد تغيب عن قارئي قصص الأديبة عفاف السيد عنايتها الفائقة باللغة حتى ليمكن القول بأن "التجربة اللغوية "هي العنصر الأساسي في هذه القصص.
ويقترب أسلوب الكاتبة من بناء الشعر وروحه في اللحظات التي تصفو فيها نفس الشخصية القصصية من هواجسها ويراودها الأمل في سعادة مقبلة أو رضى وشيك أو حين يستبد بها الخوف والقلق ويمتزج لديها المشهد الخارجي بمخاوف العقل الباطن.
وفي تلك اللحظات الخالصة للمشاعر أو الوجدان تصبح لغة الشعر- في هذه القصص- أقدر الأساليب على التعبير والتجسيم.
ومن نماذج ذلك ما جاء في قصة (نقلات خاصة): جلست منتبه.. وانا في الحقيقة أتاملك، خطوطك بسيطة وربما أستطعت أن ارسمك كسمكة مجردة أو حلم يتمدد بروحى في البراح، وربما أرسمك مثلك تماماً، أو تندهش من فيض ألوانى في مشارب خطوطك البديهية.
ولا شك أن هذه المجموعة في تميزها بنوع فريد من التجربة وأسلوب متميز في التعبير وسيطرة بادية على اللغة تنبئ بأديبة مصرية عربية كبيرة قادرة على ارتياد تجارب عميقة وبلوغ مستوى مرموق من التفرد والاصالة. تذكرة 1- ابراهيم سعفان – نظرات نقدية في القصة القصيرة والرواية - هيئة الكتاب المصرية القاهرة – 1985 م
2- محمد محمود عبد الرازق – فن معايشة القصة القصيرة – هيئة الكتاب – القاهرة – 1995 م
3- هنرى ودانالى توماس – اعلام الفن القصصى – ترجمة عثمان نوبة – دار الكتاب المصرى – 1956م
4- د. حسن فتح الباب – سمات الحداثة في الشعر العربى المعاصر – دراسات أدبية – هيئة الكتاب – القاهرة – 1997 م
5- رونالد دافيد لانج - الحكمة والجنون والحماقة - سيرة طبيب نفسى – الالف كتاب الثانى – هيئة الكتاب ص 209
6- د. جميل عبد المجيد - البديع بين البلاغة العربية واللسانيات النصية – دراسات أدبية – هيئة الكتاب – القاهرة 1998 م
7- مذكرات كازا نتزاكى - ترجمة ممدوح عدوان - دار ابن الرشيد للطباعة والنشر – بيروت