دراسة نقدية
التقنيات الفنية الكاملة خلف ظاهر النص
فى مجموعة (( حارس الفيوم ))
للأديب الراحل / سمير عبد الفتاح
بقلم : حسن غريب
كاتب روائي ناقد
____________________________
من خدرنى و ربط لسانى ؟ من خطل عينى و ملأ السماء بالرماد و القذى ؟ من ألقى بروحى فى برزخ و أفسد قلبى بالنشيج ؟
بهذه الكلمات كان الأديب سمير عبد الفتاح يلخص لى مفاتيح اكتشاف عالمه القصصى بل مداخل استكشاف معانيه و أحساسيه الكامنة خلف ظاهر النص ، و التى تعكس الهموم التى تشغله و تشكل محوراً لرؤيته و رؤياه و كيف عبر عنها و ماهية التقنيات الفنية التى استخدمها للوفاء بحاجات هذا التعبير
فنصل من خلال ذلك إلى التعرف على تصورنا لهذه الوظيفة عنده و نصيبه من الإضاءة و الإضافة لحركة القص المعاصر
لكل كاتب عالمه الخاص الذى يعيش فيه و يظل ظله ممتداً فى أعماله و لا يمكن الوصول إلى سره و سماله إلا بالمعايشة الكاملة لأعماله كلها حيث تكتمل الصورة إكتمالاً يكشف عن أفكار الكاتب و عالم الكاتب الراحل ( سمير عبد الفتاح ) عالم ليس سهلاً كما يخيل لأول وهلة كل من يقف على بابه أو يلجه بسرعة و لكن القراءة المتانية المستنبطة للأعمال من الداخل تكشف عما يموج به عالم هذا الكاتب و هو عالم ليس بسيطاً أو ساذجاً و لكنه عالم متشابك يموج بأفكار مختلفة تحمل فلسفة الكاتب فى الحلم و الموت و الحياة و السياسة
و إذا كان هذا العالم يبدو عالماً وردياً تستنشق شخصياته فيه الحب مثل الهواء فهذا ليس إلا شكلاً يصوغ فيه الكاتب مضامينه القصصية و إن بدت قصصه متشابهة و لكن المدقق الفاحص يدرك أنها تختلف إختلافاً بيناً فالأديب الراحل ( سمير عبد الفتاح ) فى كل قصصه يضع فكرة جديدة
و المدهش حقاً أن يجد فى هذا العالم القصصى أن الأديب يكون لازعاً و قاسياً فى مواجهته للحقيقة
و هذا يختلف مع مظهره الهادئ و سمته الأنيق و هذا يكشف عن أعماقه الثائرة كالبركان
الأشكال اللغوية و الرموز الفنية
أغلب الظن أن وعى الأديب الراحل( سمير عبد الفتاح ) بما يقع خلف النص كان الأولى بالعناية دون سواه ، يفضحه فى ذلك منذ البدء
هذا الرمز المستقل ( حارس الفيوم ) الذى اختاره ليكون عنواناً معبراً عما تمنته مجموعته القصصية الثالثة لتسعة قصص تتخللها قصة طويلة و هى ( ما فعلته اليمامة حين تعلمت الهديل )
لم يكن بوسعى تفهم أسباب بعثرته لتسعة عناوين و تجميع الباقى تحت تسعة عناوين أخرى هى : -
(( البعد السابع – ما فعلته اليمامة – الورم – حارس الفيوم – أيامك يا إبراهيم – البرطوش – فى أتوبيس الصباح – الكائن و المكنون – الضوء و النار ))
أدركت أن ما يأتى خلف الأشياء دائماً هو بداية لتلك ، ومن ثم تصبح هناك ضرورة للخروج من الوجود المادى المجرد إلى تصور اليقين الأوحد لتلك الأشياء بعيداً عن حفرة الإيهام بالحقيقة التى يفرض علينا الإبداع الوقوع فيها – الإضاءة و الإضافة هم ثالث لا يلجأ ( سمير عبد الفتاح ) بتشبعه إياه إلى التعامل المباشر مع الأشياء نفسها و غنما يطور أفكاره عن هذه الأشياء للدرجة التى قد لا يستطيع معها أن يرى شيئاً أو يعرفه إلا من نظامه الرمزى مؤكداً قول ابيكيتيوس :
(( إن ما يقلق الإنسان و يخيفه ليست الأشياء و إنما أراؤه و تخيلاته عن الأشياء )) سنواجه إذن
زحفاً وحشياً يغلف نفسه بغلاف من الأشكال اللغوية و الصور الفنية و الرموز الأسطورية يسبغ على الوجود بعداً ربما لا يعرفه سوى ( سمير عبد الفتاح ) و لم لا ؟
إنه يستهل مجموعته ، و هو مدرك لذلك بقصته ( البعد السابع ) : " لم تكن صرخة تلك أطلقها وحيدى و هو نائم فى حضنى ! نعم لم تكن صرخة ، بالمعنى الذى نعرفه عن الصراخ فنحن نصرخ خوفاً أو هلعاً غضباً أو دلعاً لكن هذه التى أصدرها وحيدى لم تكن صرخى بأى حال " و متأملاً ذاته فيما يقدمه من خلال قصته ( حارس الفيوم ) : -
" من خلف زجاج نافذة شقتى السفلية ، الموشاة بحبات المطر ووحل الطريق – رأيت الضباب يحجب المدينة ، و يغسل البيوت و الشجر و رأيت البرد و الظلام و رأيت السكون و المطر ، غبدأ و كانه يسوق إلينا سحابة صيفية ، لا تمطر أبدأ و لا تفرش ظلها فوق الأرصفة المعجونة باللهب إلا لثوان قليلة نحترق بعدها ثم نغرق فى بحيرات العرق و لملح هذا يجعلنا ندخل عالمه و نحن أكثر حذراً ، فما أشد اندفاعه ناحية الجحيم ، غنه ببساطة يطوح بكل الأشياء الجميلة التى حملنا بذرتها منذ لحظة الفرح الثالث ، يطوح بتلك الأيام التى حاورنا دهشتها و أحلامها و حاورتنا و لا مانع من أن تتداخل الالات و تمتزج النغمات ، و يصبح كل شئ خاضعاً لمزاج العازف و مدى مهارته و لا مانع من أن تتهجى الأيام حروف النشيد و هى بلا أبجدية لتمتص دم المسلمات الواقعة على مشارف الحياة بخجل و براءة جدلية تقترب من الشعر
يسلمنا هذا من التخلى أحياناً عن معايير النقد المألوفة و نحن نتأمل هذه المجموعة ( حارس الفيوم ) هذه السيمفونية إلى إلتماس الإحساس بالارتواء من نفس الإحساس بالظمأ ، عبر النسيج المجدول من الشكل قالباً و أسلوباً و إبقاعاً و المضمون فكراً و رؤيا و هما لديه وحدة واحدة لا تتجزأ
تفجرها الحساسية النفسية اللغوية للنص ذاته
فيتشكل لا من تضافر بين الواقع المادى و المتخيل فى جدلية من ثلاثية الزمن الماضى و الحاضر
و الآتى متوغلاً فى المكان بل من تضافر غير تضافر غير المرئى و تأنله فى جدلية حلم الواقع الاتى بدرجة هى إلى الشعر أقرب منها إلى النثر :
فتصبح أصالة المبدع لا تعنى الصدق النفسى و الفنى و عدم تقليده لغيره أو تفرده فى الرؤية فحسب بل صعوبة العثور على تصورات له تنتمى فى بعض تجلياتها إلى حقول دلالية لدى شوامخ المبدعين كما تصبح أصالة النص لا تعنى فحسب زمرة من التجارب الحيايتة أو الخبرات الفنية ، إنما ما يعمق تلك العناصر و يرتبها فيجعل المتلقى بذلك أكثر علاقة فى إنسانيته
كما يقول المازنى : " بنفس الدرجة التى يتحول فيها النص بين يدى المتلقى إلى عبارة احتواء لمشاعره و هواجسه إذا أنساب وادعاً رقراقا لا يصخب و لا يثور أو إذا راودته نزوة التمرد و الانفجار " هذه العراقة الإنسانية فى العلاقة المتشابكة بين النص و قارئه هى التى فرضت كما أزعم على ( سمير عبد الفتاح ) ألا يتكلف النص ما و لا يصطنع الإحساس أو الفكرة بل دفعته إلى التمسك بمكانه العاشق الذى يتنفس الوجود إنساناً و طبيعة فى مسيرة لا يقلد فيها أحداً بل يظل فيها وفياً بطبعه و لطقوسه أكثر منه بالاكتساب ، فجاء صوته غنائياً بسيطاً متوهجاً بإيقاعه الصافى إلى أكثر المشاعر عضوية ، فبدأ و كأنه يساعدنا على احتمال هذا العالم المريض بفرط الحساسية الفكرية و مطاردة المشكلات الذهنية الصارمة بكل تعقيداتها
تلك التى يطرحها الفكر و الفن و الأدب من خلال الأداء الفنى الصعب
مرآة النص للواقع الجمعى
و لا يعنى ذلك بالطبع أنه لم يعد من خصيلة معارفه وو تجاربه – على إتساعها – و مطالعاته لفنون التراث الإنسانى فى شتى أنواعه على اختلاف الزمن و المكان إلا صقل أدواته التى يعبر بها عن هذا المخزون المتشكل من فيض ما أستوعبته و تلك الطقوس التى تطابق شخصيته ، خاصة إذا التفتنا إلى خاصية اعتماده على استدعاء الذاكرة و هو يكتب فى أماكن مثل : الكازينو – مراكب النيل – الطريق – البحر – المقابر – شجر البانسيانا – الجامع – الترعة – الشارع – الأتوبيس ألخ
إنما يقترب مما دعا إليه ( هوشى ) فى مقولته المشهورة : ( من لا يفنى لا يقاتل ) و لأن الغنائية سلاحه و هى لغة شعورية شاعرية يأتى التوحيد بين ذاته و المجموع فلا يصدر إبداعهن أحلامه و ألامه و هواجسه الفردية ، بل من بحر المجموع الصافى فيصبح النص مرآة صادقة للواقع الجمعى ، و مقاربة للجو المحلى فى عفويته مما يدعوه إلى الاقتباس أحياناً من قاموس اللهجة العامية فى القصص التى استوحاها من شخصيات أو أجواء شعبية مقولته فى قصة ( البعد السابع ) : " يطنشه ، يغطرشة ، يحل عن سماه " ، و كذلك فى قصة ( أيامك يا إبراهيم ) : " عبد الحميد دفنونى يا عبد الحميد دفنونى " ، و فى قصة ( فى أتوبيس الصباح ) " المحفظة يا كفرة يا زناديق يا أولاد الخنازير " ، فلا تغريه غنائيته إلى المبالغة و الغموض إلا فى مناطق قليلة ترتضيها أحيانا الحاجة الفنية دون تعقيد مثلما لا تغريه أيضاً إلى إيثار سهولة الالفاظ و التراكيب و المعانى التى تشبه أناشيد الأطفال الهادفة إلى أغراض تربوية
بل تظل الورود المتوهجة بأنفاس الحياة هى المقصد – الدافع إلى مستوى إبداعى يتمثل فى تلك الومضات الشعوبية الشاعرية و هذا ما يحتاج منا إلى وقفة
التضمين و تعميق الرؤى
تزخر المجموعة القصصية ( حارس الفيوم ) بالمشاعر الجياشة المتلكنة بين المرارة التى تكاد تبلعغ أحياناً حافة الاكتئاب و السخرية اللاذعة
لكنه يسقط فى مهاوى الإحباط لأنه مدرك دورة الليل و النهار – بصير بحتمية البداية الجديدة التى تحرسها الفيوم – و بين ما تمثله هذه البداية من عناصر حية مضيئة متطلعة إلى فرح يراوغ - دائماً - ملامحه ثم تبلغ شحناته الشعورية ذروتها فى بعض القصص التى تجئ بمثابة ثمرة تجربة امتلأت بها الكأس حتى فاضت – فكانت المشاعر أكثر سيطرة من العقل و التخبط
مما منحها عفوية الحياة و دفنها مثل قصص : ( ما فعلته اليمامة حين تعلمت الهديل بأجزائها التسع – الكائن و المكنون – البعد السابع – الضوء و النار ) فى معمار شعرى متقن نسيجه مضفور لغة و تصويراً جعل للقصة تكويناً جمالياً متسقاً و بناء هندسياً محكماً بخيوط دقيقة و جعل ( سمير عبد الفتاح ) شاعراً ضل طريقه إلى القصة و لذلك عدة إرهاصات
أول هذه البراهين التضمين و هو من أهم الظواهر الفنية التى استحدثتها القصيدة المعاصرة منذ عصر الريادة فى أواخر الأربيعنات حيث يتم توظيفه كعامل اثراء و تعميق للرؤية الشعرية و هو ما لم تألفه القصة القصيرة كثيراً و لا يكتفى ( سمير عبد الفتاح ) بالتضمين كأسلوب فنى عرفه الأسلاف من شعراء العصور المتفاوتة بل يعتمد تطوره أيضاً و تشعب أبعاده و تعدد الوظائف التى يقوم بها فى بناء القصة / القصيدة بناء موفياً بأغراضها شكلاً و مضموناً حتى اتخذ اسماً يكاد يبتعد عن الأصل لكثرة ما جد عليه من تفريعات و تحويلات و هو ( التناص ) فى الأمثال أو العبارات أو التوازى لكنه بحساسيته يعى جيداً أهمية الحفاظ على وهج التجربة الفنية مبتعداً عن كثرة الإحالات المقحمة على النص و التى تؤدى إلى ضعف استجابة المتلقى بل ربما نفوره فيقول فى قصة ( ما فعلته اليمامة حين شعرت بقلبها )
" المراكب التى تتألق بالعاشقين على زبد النيل ، و صوت فيروز يطهر الدنيا و يداعب الأسماك فى خلجاتها ، حيث لثم إبهامى فتماوجت كأس البرتقال هنيهة ، و تزوبعت فى فنجانه مويجات القهوة " و هو تضمين شعرى ، و فى قصة ( حارس الفيوم ) يقول :
" طيب سلام عليكم " و هو تضمين من الحس الشعبى ، و فى قصة ( الضوء و النار ) يقول : " فلم يقل : " كفاية يا عمل " حين أهلكوه فى الخلع و الزرع و لم يقل " كفاية يا صبر " حين مد خطوط الحديد لتعبر القطارات إلى الصحارى و الهضاب ! و لم يقل " كفاية يا عين " حين نام فى خيام الشعر و زرائب الحمير و البقر و لم يقل " كفاية يا ألم " حين هاجمته القروح و هدمه السقم "
و هو تضمين شعرى أيضاً ، و فى قصة ( الورم ) يقول : " تتكون المرآة من عدة أشياء ، و يتكون الرجل من شئ واحد " وهو تضمين شعرى غنائى
الزخم الشعرى المؤثر
و ثانى هذه الإرهاصات يتجسد فى إسلوب التراسل بين الكلمات و فيه يخلع على الأشياء وصفاً ليس من شانها و نجد ذلك كثيراً فى – التسع قصص – التى تتضمنها المجموعة يقول مثلاً فى قصة ( حارس الفيوم ) : " فيها هو ذا الشتاء قد آتى – شتاء العمر و ها هى المصابيح الكهربية تلقى بضوئها الأصفر الشحوب على وحل الطريق فتلمعه
و " هل أمد اصابعى كطفل صغير و ألمس الضباب ؟ " و " فركلت مقعدى الوحيد ، و فتحت الباب قبل أن أختنق ثم دفعت بجسمى إلى الخارج حيث البرد و الإعتام "
و " نظرت حولى فوجدتنى المعنى بالكلام ، فسندت ثقلى إلى الحائط القريب ، و ألمنى ثقل الضباب " إلى غير ذلك هذا أسلوب للشعر فى الأساس لا القصة ثم يأتى البرهان الثالث فى إشتعال الختام و الشاعر يعرف بختامه لا باستهلاله لأن براعة الإستهلال وفقاً للمقاييس البلاغية القديمة لم تعد شرطاً ملزماً للشاعر المبدع إنما تكمن العبقرية فى الختام أو الكريشندو إذا استعرنا لغة السيمفونيات حيث يركز المضمون كله و يكثف التجربة التى فجرت العمل الفنى و إذا عدنا إلى نهايات ( سمير عبد الفتاح ) ستلفت انتباهنا أكثر من بداياته
و يحقق لنا هذا البرهان الثالث تحديداً خاصية أساسية فى لغة ( سمير عبد الفتاح ) هى التنامى المطرد للعمل فيتشابه بذلك مع الدراما بمعناها الذى يرفض أن تكون دوامة تدور حول نفسها
إنما موجات تتابع و تكبر و تتسع موجه بعد موجه دائرة بعد دائرة و هى التى تمثل لديه لحظة التنوير فلا حبكة تقليدية متقنة و لا سرد متسلسلاً إنما هو يصور و يينحت و يعزف و يغنى فتتحول الكلمات إلى تماثيل و مشاهد و معزوفات بطريقة يجتمع فيها الكل فى واحد ثم رابع البراهين فى التكوينات الثنائية القائمة على المفارقة أو التجانس و المفارقة لا تقوم على إختلاف المسميات فى الصوت أو اللون أو الشكل إنما تباين الدلالات و الغايات و هذا التباين و هو الكثر يجعل لتلك التكوينات تنوعاً متحركاً فى إطار معرفى متألف حيث تتعدد رؤى الوجه الأخر الذى لم يكشف عنه و هذا رخم شعرى يؤثر فيه الشاعر أن يجعل المألوف مثيراً للدهشة راصداً غير المتاح ليقع فى دائرة المعرفة المتاحة و الإرهاصة الخامسة : ظاهرة التشخيص اللغوى و هى ظاهرة شعرية تتضمن زوايتى نظر متباينتين أحدهما تكشف عن جوهر المبدع بينما تضنيه الثانية تحديقاً و تلمساً فإذا إنكشف عنه التحديق و التلمس عاودهم التعبير و التحبير يقول الأديب ( سمير عبد الفتاح ) على سبيل المثال فى قصة ( أيامك يا إبراهيم ) : " و قبل أن يدخلوا المدافن بعشرات الخطوات تركتهم يحملونه ، و أوليت للغطهم ظهرى و مع كل جرفة فأس كانت تهال على نعشه ، كنت أشعر بأنفاس تخبو و تنجرف ، و روحى تغيض و تفيض إنه ذو طبيعة حسية يستطيع الإحساس بالأشياء عبر تشخيصها فيسهل له تبين الألوان و الظلال و تشمم الروائح و تلمس الأشكال فيصل إلى مستوى من الرؤية الحيوية للكون الذى يبدو أمامه فى تخلق مستمر صيرورة دائمة بل و مزاوجة ومقاربة و توالد و لذا تتجلى الصورة الفنية لديه دائماً بالرغم من أن رغبته فى التجريب شديدة الحيوية و التألق فى التعبير عن واقع اجتماعى
لتجسد هذه الصورة ملكة الرؤية الشاملة و تلك تحتاج لبنائها ملكة أدراك المفارقة و المشابهة لا ملكة ادراك التمايز و توحد الأشياء و الملكة الأولى يحتاج إليها القاص الشاعر الحساس الذى وصفه أديبنا الكبير ( عباس العقاد ) فى مقدمة " وحى الأربعين " بقوله : " الشاعر الحساس لا ينبغى أن يتقيد إلا بمطلب واحد يطوى فيه جميع المطالب و هو التعبير الجميل عن الشعور الصادق "
فهل يخرج عرى ( سمير عبد الفتاح ) فى مجموعته القصصية ( حارس الفيوم ) عن دائرة التعبير الجميل عن الشعور الصادق ؟
سيطرة الموروث الأدبى
الحق أن ( سمير عبد الفتاح ) – من مجهة نظرى – هو قاص مرحلة الانتقال الذى أجاد الفكاك من عيوب القص المعاصر بحكم سيطرة الموروث الأدبى و صدور مجموعتين من قبل له هما : -
• سبع وريقات شخصية لعامل التحويلة المنتحر الصادرة عن الهيئة العامة للكتاب 1993
• تطهر الفارس القديم – الهيئة العامة للكتاب سلسة أدب الحرب – 1996
• تم كتاب البعد الغائب ( نظرات فى القصة و الرواية ) مركز الحضارة العربية 1999 م
و تاتى مجموعته ( حارس الفيوم ) لتبين لنا لغة متميزة و منفردة لا تعتمد على الإيحاء بقدر ما تلجأ إلى التحديد المفيد بالتأمل و لو كانت الألفاظ رموزاً لمرموزات تستعمل لدلالتها الإيجابية لا لدلالتها الواقعية لكانت لغته – على إتساع منابعها – لسانا يخلع الشاعرية على فتات الحياة النثرية و نحن لا نستطيع أن نحاسب مبدع على اتساع عالمه فتلك ميزة تحسب له لا نقيصة تحسب عليه لكننا نطالبه حين يتسع عالمه أن تكون زاوية رؤيته لهذا العالم المتسع محدودة و بحيث يصبح لكل موضوع زاوية الرؤية التى تنسجم معه و هو ما يفعله – دون أن نطالبه به
و لأن المسافة التى يعبرها الفن هى المسافة بين الواقع الواقعى و الواقع الفنى أو المسافة بين لغة الجمود و لغة الحركة لا يعبر ( سمير عبد الفتاح ) عن تباين شخصياته لتباين المستويات اللغوية – الإيهام الشائع المبتذل – و إنما إثارة المعنى و أثارة ظلاله
و كشفه و أن لم يبق منه لحدث القارئ بعد تأمله ، و على طريقة أن يوليوس قيصر قد يتحدث فى مسرحية شكسبير ، و أوديب قد يتحدث الفرنسية فى مسرح اندريه جيد و كوكتو / و إيزيس قد تتحدث العربية فى مسرح توفيق الحكيم لا يضير ( سمير عبد الفتاح ) أن يتحدث الرجل البسيط الثاقفة فى قصة ( الضوء و النار ) قائلاً : " قالوا : احضر فحضر ، ازرع فزرع ، اصنع فصنع ، أطلع فطلع " و فى مقطع آخر فى نفس القصة : يقول " كفاية يا رب شبعت " لغة تنتسب إلى العربية الفصحى بأوثق رباط حرصاً على سلامتها و بعداً عن علل الترخيص و فضلاً عن هذا – بعد الاستطراد – تتمثل الخاصية الشعرية السادسة فى قصص ( سمير عبد الفتاح ) فى التكرار أو الترديد ، و هى خاصية فنية عريقة فى الشعر العربى و غيره نجدها عند ( مالك بن الريب ) كما نجدها عند ( توماس إليوت ) و ( سمير عبد الفتاح ) لا يجيد توظيفها بل يوفق دائماً فى هذا التوظيف قيربا بها عن استخدامها كمتكا للاسترسال بل تصبح فى كل مرة مثال انبعاث لنشوة المتلقى و الأمثلة كثيرة و ذلك نجده يعتمدها – كما فى الشعر – عاملاً لغوياً من عوامل تجسيد الاستمرارية للمتحدث عنه أو المحور الذى يدور حوله و إن تغيرت المواقف و هذا نجده أيضاً بكثرة لدى أمرئ القيس
يقول ( سمير عبد الفتاح ) فى قصة ( الورم ) : " و قبل أن يشعل الطبيب سيجارته طلب أن يرى الورم " و فى قصة ( حارس الفيوم ) " حين أصر عمران أن يشعل سيجارته "
هذا على مستوى القصص المتعددة أما مستوى القصص الواحدة فيقول مثلاً فى قصة ( البعد السابع ) : " لم تكن صرخة بالمعنى الذى نعرفه " ثم " لم تكن صرخة بأى حال " ثم " لم تكن صرخة إرادية يمكن منعها أما فى قصة ( ما فعلته اليمامة حيث تعلمت الهديل ) فيقول : " بوسعى الآن تذكر كل شئ " ثم " بوسعى تذكر لون القطار " ثم " بوسعى تذكر عدد النوافذ " وفى قصة ( أيامك يا إبراهيم ) فيقول : " لم تكن الأمطار تسقط بمثل هذه الضراوة " ثم " لم يكن أمامنا إلا أن نزحف " ثم " لم تكن صدفة أن يدفن زملائى " ثم " لم يكن يظهر منا فى ذلك الظلام البهيم " ثم " لم يكن الاختيار صعباً "
و فى قصة ( الكائن و المكنون ) يقول : " حينما اختارنى الضرير لأقوده " ثم " فقد اختارنى أنا العازف العزوف " وفى مكان آخر من القصة يقول كاتبنا : " استسلمت لكفه اللزج " ثم " ضغط على كفى فسكت " ثم رأيته يقبض على كفى " ثم " حين ضغط على كفى و همس فى أذنى " ثم " ضغط على كفى و قال لا تخف " ثم " ضغط على كفى و نصحنى " وفى مقطع آخر من نفس القصة يقول كاتبنا : " لزوجتهما و اختلاطهما " ثم " غرق فى لزوجة " ثم " الورقة المعجونة بلزوجة " ثم " و أوحال لزجة ستر الظلام " وفى مقطع آخر من نفس القصة يقول : " ها أنت فى نهاية البداية " ثم " فى بداية البداية " ثم " فى بداية الخليقة " ثم " بداية الضوء و الظلام " و فى مقطع آخر يقول الكاتب : " كان يمنعنى من السقوط " ثم " فسقطنا على الأرض " ثم " ما يسقط على الأرض " ثم " فسقطت على ظهرى " و جاءت فى نفس القصة كلمة ( وحين ) فى مواضع مختلفة و هذا أمر يعتبره أساتذة و نفاذ لغة النص مأخوذا يؤدى إلى الإقلال من الإخبارية لكننا مع عدم إنكار ذلك لا نفترض وجوده عند التعامل مع نصوص ( سمير عبد الفتاح ) ، عملاً بمبدأ القائلين بترك الأمر لما يسفر عنه التحليل ، أو بصيغة أخرى مبدأ الإنتقال من التقعيد إلى الوصف و التشخيص - و هو ملمح سبقت الإشارة إليه - و هو المبدأ الذى نلمحه لدى ابن الأثير حين تعامل مع التكرار فى القرآن الكريم مؤكداً فائدته فى إطار السياق المقالى و السياق المقامى – و هو ما يدل على ؟إحتمالية وجود معنى واحد - كما عند ( سمير عبد الفتاح ) – و المقصود به غرضان مختلفان أو اكثر – و هذا يؤكد – من ثم – إثبات الفارق فى المعنى ، فضلاً عن ميزة التكرار فى الربط بين أجزاء الكلام و تنشيط ذاكرة المتلقى استجابة لمركزية يدور فى فلكها الإرتفاع و النفس البشرية قد تكون – لشئ فى طبيعتها – قادرة على الإستجابة لإيقاعات تتخذ نواة جذرية مركزاً لها ثم تنشأ حول هذا المركز نواة ثابتة أو أكثر بمعنى أن الإنسان يتفاعل مع عنصر جذري أساسى يتيم يقع فى مداره عنصر أو عناصر أقل جذرية و لا يفوتنا – بالمناسبة – أن بنية القصيدة فى شعر أبى تمام كان تعتمد ذلك
قاعدة ازدواجية اللفظ
هذأ يعنى ـ بالتبعية ـ استفادة مبدعنا عبر هذة الخاصية من قاعدة ازدواجية اللفظ التى تسمح باستعمال عدد مطلق من المدلولات من عدد قليل من الاصوات
وهى قاعدة تقود اللغة الى الجانس الصوتى الذى يقترح قرابة فى المعنى وفى الشعر يتم تقيم كل اساس علاقتة بالتشابة فى المعنى
ولذلك عند تطبيق القاعدة التى صاغها (بوب) بقولة :ـ( على الصوت أن يبدو كما لو كان صدى المعنى )
على الكثافة الصوتية للالفاظ التى يحتويها قاموس (سمير عبد الفتاح ) فى مجموعته (حارس الغيوم ) سوف تكتسب ابعاد ا تؤكد خاصيات جوهرية فى البنية الايقاعية أهمها تقسيم الجمل إلى وحدات تشطيرية أكثر كلما كان هناك وحدات تنتمى إلى بنية تركيبية تهيئ لقانون التماثل و التراكم
ومن هنا يبدو تحفظى الأولى منطقياً فعمل فنى يضم كل هذه التقننيات لا يأتى بيسر و لين و لكن بعد جهد جهيد و بعدها قد فاض به الكيل المختزن من الابتداع الخصب و على سبيل المثال ينظر مثلاً ماذا يقول فى قصة ( ما فعلته اليمامة حين تذكرت وليفها ) " أرى عقارب ساعته و عدد شعيرات كفه / اثبت الصورة فاشعر بدفء يديه المحيطتين / و قلبه الواجف أقربها : فأرى حدقتيه و أقرأ أفكاره و مفازات عقله / و كلما غابت ملامحه / وضح حضوره و تجلت سجاياه "
و فى قصته ( حارس الفيوم ) يقول : " هل أمد أصابعى كطفل صغير المس الصباب ؟ / هل شعرت بغصة حين وقفت علىأطراف أصابعى / و رأيت المطر يغسل الطريق و الرياح تجرف أوراق الشجر / و تكورها فى نهر الشاعر ، ثم تهز المصباح المتدلى من عامود خشبى على شاطئ النيل ؟ و فى قصته ( أيامك يا إبراهيم ) يقول كاتبنا : و على ضوء طلقة مضئية ، لمحت دماً يختلط بالماء من حولنا ، و لوحاً خشبياً من السفن الغارقة يسعى نحونا – و كأنه ملاك حارس ) ألخ و بالتالى فإنه إذا كان الشعر يستجيب لقاعدة التوازى ( الصوت – دلالته ) فإن لفظ ( سمير عبد الفتاح ) يميل إلى التجانس فى كلمات تنتمى إلى قطاع واحد
تجاذب الألفاظ المستمر
إنها بعض السمات الأسلوبية التى لاحظت منها حرصاً من جانب مبدعنا تجاه الألفاظ التى كانت شاغله سواء على المستوى الفردى أو التركيبى – تركيب العبارات – غير أن هذا الحرص تمثل على المستوى التركيبى بصورة أكبر مما هو عليه على مستوى اللفظ الفرد و لذلك تظل الالفاظ فى تجازب مغناطيسى دوءب ومن نتاج هذا التجاذب تشع قيمتها و تنتظم فى دلالتها فلا تتحدد ابعاد اللفظ إلا من خلال علاقات التجاذب مع غيره و مع هذا الخلق تكثر ذبابات الإيقاع و تتعدد ألوان الشكل فتظل حساسية النصوص الفسيولوجية و اللغوية مازجة فى شاعرية بين القصة القصيرة العالية المستوى – مؤكدة أن الحقائق الصغرى هى تلك التى جاءت نسبتها إلى صدقها فليعش ( سمير عبد الفتاح ) براءته مطمئناً إلى حيرته و ليجن من عناقيد القصة القصيدة ما ينعش به ذاته دون أن يتنازل فى المستقبل عن الرواية القصيدة – الغريب – أيضاً مع صعوبتها ، و ليمنح الحياة من المعانى الجميلة ما يلهمها الخيال و الحب و لنبتسم محتفلين معه فى النهاية بصدور مجموعته القصصية ( حارس الفيوم ) عن سلسلة أصوات أدبية للهيئة العامة لقصور الثقافة و لنبتسم أيضاً – ثانية – لأن فى الأرض من التجهم ما يكفى ليثقل فلوبنا ، مصداقاً لقول الشاعر الأمريكى ( ويتمان ) : " أحتفل بنفسي و اتغنى بنفسى و كل ما أدعيه انا عليك أن تدعيه لأن كل ذرة تنتمى إلى تنتمى إليك "
التكنيك الفنى فى القصة
إذا تحدثنا عن التكتيك الفنى فى قصص المجموعة للاديب ( سمير عبد الفتاح ) نلاحظ الآتى : -
أولاً : أن معظم قصصه يسوقها بضمير المتكلم و هذا يمكن من استبطان الشخصية و تحليلها و فى البعض الآخر يستخدم ضمير الغائب ليطلعنا على عوالم شخصياته و الجوانب الخصبة فيها
ثانياً : أن معظم أبطال قصصه بأسماء متعارف عليها – لتكون رمزاً و دلالة أرحب و اعمق
و يقدمها كانماط إنسانية تتكرر فى المجتمع لا تنتهى
ثالثا : أن الكاتب كما بينا ينهد للحديث و يهيئ الجو بسلامة و تنسيق يستجيب مع المواقف بشكل يثير الشوق و يجذب القارئ لمعرفة النهاية
رابعاً : أن الكاتب ينهى قصصه نهايات مختلفة قد تكون نهاية عادية ، و قد تكون نهاية مفاجئة لكنها منسجمة مع نسيج القصة و لا تبدو مقحمة و غريبة و قد تكون نهايات مفتوحة يشوبها شئ من الإبهام معتمداً على ذكاء القارئ و ليدفعه أيضاً إلى التفكير للوصول فى نهاية المطاف إلى نتيجة يهدف إليها
و الحقيقة أن الأديب المتميز و المتألق – دائماً – ( سمير عبد الفتاح ) هو يعتبر بمثابة رائد القصة القصيرة – فى هذا العصر الذى وهب نفسه لها و يعيش راهباً فى محرابها يحتاج إلى العديد من الدراسات لتكشف الزوايا المتعددة التى تتضمنها قصصه
و أخيراً
إن ( سمير عبد الفتاح ) بطبعه الهادئ و حساسيته المرهفة يجب أن يبعد عن الضوضاء و عن الشعارات الكاذبة و يعمل فى هدوء و إخلاص و يترك العمل هو الذى يفرض نفسه و يؤمن تماماً بانه هو الذى يعيش و يخلد صاحبه
الهوامش
1- ج / الطاهر احمد مكى - القصة القصيرة دراسة و مختارات - دار المعارف القاهرة 1978 م
2- عبد الرحمن أبو عوف - البحث عن طريق جديد للقصة القصيرة المصرية – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة يونيه 1997 م
3- روللو ماى – شجاعة اإبداع – ترجمه فؤاد كامل – دار سعاد الصباح للطباعة و النشر 1992 م
4- د / هدى وضفى – النقد الدبى – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1999 م
5- د / محمد عبد المطلب – النص المشكل – الهيئة العام لقصور الثقافة القاهرة 1999
6- سمير عبد الفتاح – البعد الغائب ( نظرات فى القصة و الرواية ) – مركز الحضارة العربية القاهرة 1999 م
7- ديفيد بشبندر – نظرية الأدب و قراءة الشعر – ترجمة عبد المقصود عبد الكريم – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1996 م
8- محمد حسنين قشيوط – كتاب الجوائز دراسة أدبية عن اعمال الكاتب محمد عبد الحليم عبد الله – الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة فبراير 2000 م
9- روجيه جارودى – ماركسية القرن العشرين – ترجمة نزيه حكيم – الأداب – بيروت
10- يوسف الشارونى – القصة تطوراً و تمرداً – سلسلة كتابات نقدية – الهيئة العامة لقصور الثقافة القاهرة 1997 م
11- جوليا كرستيفا – علم النص – ترجمة فريد الزاهى – توبقال للنشر
12- د / مصطفى ناصف – اللغة و البلاغة و الميلاد الجديد – دار سعاد الصباح – الطبعة الأولى 1992 م
13- د / صلاح فضل – بلاغة الخطاب و علم النص – عالم المعرفة 1992 م