جماليات النص الشعري الذي يصنع الحياة والأمل والحب. في ديوان (في توقيت الدخول للروح) للشاعرة علا بركات
بقلم :حسن غريب
كاتب روائي ناقد
_______________________
مفتتح :
تتركنا الشاعرة علا بركات عند الانتهاء من قراءة ديوانها الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، سنة 2018م ، تحت عنوان “فى توقيت الدخول للروح” إلى العودة لقراءة كل ما تكتب، لما لنصوصها من أثر في المتلقي بعد القراءة يشد القارئ ويجذبه لقراءة نصوصها الشعرية تكرارا من جماليات النص والمعنى والمغزى وعمق الفكرة.
ومن قصائد الديوان “بقينا ازاى، مواقيت النور، الليل الخواف، أول قصيدة فرح، الهلب، جدار الوجع، فى توقيت الدخول للروح، رؤية، ضى الروح، لمحة، شبة حياة، للموت أرواح، ملاك، نبت الحظ، عصفور ورق”. ، إلى جانب نص "خلفية عمر" الملحق بالديوان .
جاء على غلاف الكتاب”أنا شفتك زى ما كنت ملاك مسكون بالطيبة وبالغيه مجذوب واخداه الآه لبعيد، والذكر آيات الحنيه حبات اللولى اللى فى عرقك وقت ما بتدوب، زادوا شويه أنا شفتك بس ما شفتش فين الحب بيجمع عشاقة ولا فين بيصلوا صلاة القرب على روح القتلاه أشواقة ولا إمتى الفجر بيبدر نور بيشوفنى وبتشوفه عينيا”.(في توقيت الدخول للروح ) في حالة مندهشة إمام دفقة شعريه تنتمي الى علا بركات وحدها، ولحين نظل امام فيض من مشاعر مختلفة ناتج عن هذا التنوع الشعري العامي الذي حفل به الديوان الصادر عن الهيئة العامة للكتاب ، فمن المغامرة بالشعر العامي، الى الذات الحاضرة التي توجه المعنى، ثم تتالى صور عاصفة تطاول المستحيل وتحيل الفرح المباغت الى حزن متمكن يحتمه الفقدان العاطفي الروحي او يرتفع في الصوت في اشراقة متأنية متهلة واعدة بانتصار الروح.
أثرت أن أستهل هذا الديوان بمقطع من المواقف والمخاطبات للنفري (سيأتيك الحرف وما فيه وكل شيء ظهرفهو فيه… لخ)، فنتهيأ لاستقبال شعر يتلبسه حس ساحلي خاص ومن نوع خاص، يشتبك على نحو ما مع جدلية الشعر في مخاطبة الوجود، ففي (بقينا ازاي)
أنا.. أمل غرقان وطوق مش للنجاة
يا عيون قتلها التعب ، يا قلوب يا ساكنة الآه
آدي اجلنة.. استوطنوا الأحلام
استوطنوا حتى الخيال، والحلم بالنور والحياة
ما فضلش غير دقة قدم، وقصيدة مولودة، وملفوفة في توب الرب
وهي قصيدة تساؤل الذات لكنه تمتح من معنى حب غير المتكلم فيعلووجع القلب ويسفل العقل، حيث يتقلب القلب من حال الى حال، تتبنى جدلية القصيدة على ثابت ومتغير (تساؤل/ الذات)، هذه الجدلية تطرحها القصيدة في عدد من الحركات المتتابعة:
في الحركة الاولى يبرز الوعد الذي تمنحه ارتعاشة القلب عند لقاء الأنا وحوار الذات:
( وبين الكرة والتانية علينا تطوف
عيوننا اللي امتلت عتمة ، برغم الليل
فيه لسه ما بينها ومابينك، حجاب مكشوف
ّ أنا وياك.. وصلنا لأول المشوار
ماعادش الحزن يهزمنا، ماعادش ما بيننا فيه أسرار
ماينفعش ارتعاشة خوف، تطول الصدق في قلوبنا)
لكن حجم الوعد بديمومة الحب هل يظل، هذا ما تكشف عنه الحركة الثانية التي تبدأ باستدراك
( ما فضلش غير دقة قدم، وقصيدة مولودة، وملفوفة في توب الربد
كفن واحد مابيقضيش
وكام مرة نموت..ونعيش
ماحدش فينا ودع)
ينسكب الحزن على العاطفة المتأججة, وتدخل الطبيعة طرفا في العلاقة الثنائية فنكتشف أن الوقفة للحوار مع المحبوب لا تعتمد الذوبان الصوفي بل تخالطها المشاعر.
وفي الحركة الثالثة تنتهي بنا اللحظة حين يباغتنا تساؤل اليأس
( وليه نقبل ذنوبنا تعيش، ونصلب طهر أحلامنا، إذا تبنا )
هكذا يتأكد الفقدان في الحركة الرابعة ترتد الشاعرة الى ذاتها لتعايش حالة الوجد، الفقد فلا تجد غير صوتها تغازل به الأسى وألم الحبيب (وليه نقبل ذنوبنا تعيش، ونصلب طهر أحلامنا، إذا تبنا)
وفي حركة النهاية تيقن في كشف مباغت ان النزق قد اضاع الحب بسبب الفقد وكثرة الوجع ( ما فضلش غير دقة قدم، وقصيدة مولودة، وملفوفة في توب البرد )
القصيدة الثانية وهي (مواقيت النور ) تعتمد على نحو مغاير في البناء قائم على معطيين الاول المحاكاة والتاني الصور الجزئية.هذه المحاكاة تحيل الصوت الشعري ألى مناغمة عاشقة للأثر:
( الشمس ازاي تقدر تخلف مواقيت النور!
وانا مش م الحور.. ولا جنية.. ولا حتى ملاك
أنا نبتة روح، أنا أرض بتسمو بنور حلمك، تطرح بساتيني
أنا ذكرى بترويها تنبت، أيام حلوين
أنا بحر محبة مالوش ً أبدا غيرك شطآن) تتم المحاكاة الاستهلالية باقتدار وخصوصية تتجاوز تهلهل النثر الى فيض الشعرية.
الصور الجزئية:
هنا يتجاوز المتخيل عند الشاعرة بنا حد المعقول ليشبع التجربة بموجباتها فينطرح من خلأل مجموعة من الصور الجزئية المتتالية التي تماثل الوجع الذاتي للمحبوب :
( أنا إنسانة ع الأرض.. وفي الجنة.. وفي النار اللي ف بعدك
أنا وحدك
جيت للكون وحدي، وماليش بعدك)
3- أول القادمين:
تنتهي بنا الدفقة الذاتية للسؤال التي طالعتنا في القصيدتين السابقتين، ويبدأ نوع من التنوع الذي اشرت اليه في (المدخل)، فيجيء صوت الشاعرة في اول القادمين محملأ بالصدى والحلم بالصمت في بناء انسيابي قائم على التتابع
( فى قصيدة خلفية عمر.
الديوان ص ١٥
والمطر دموع الحب ومدائن دهشة الأرواح
المطر أصلا دموع فى عيون محبة
واللى بينا مداين دهشة الأرواح
…
هاترجع إمتى للقلب اللى بات مدبوح
هاترجع والأسى رافع عن الجسد المعنى الروح
فالحب وجود ينساب إلى الروح بلا استئذان
فى توقيت الدخول للروح
مافيش أحباب بتستأذن )
يأخذنا الحلم الصامت ألى وأحة المستحيل تارة في محاولة لاستعادة ما لا يستعاد:
( وفي قصيدة الليل خواف )
الليل خواف، بيخاف م الصدق.. ومن قلبي.. ومن ضي عينيك
الليل لو صادف ضيك.. ممكن يبقى نهار
الليل سهران على شباكي، مستضعف قلبي،
ومستهون باللي انا رسماه
وباين له يف حد مبينله إنك مش جاي
ثم يمضي بنا تارة أخرى الى ايغال
4- أيغال:
حيث البناء قائم على المداخلة بين ثلاث دوائر:
– الطبيعة الشاعرة:
( الليل خواف، بيخاف م الصدق.. ومن قلبي.. ومن ضي عينيك
)
– والذات الحاضرة:
(
الليل لو صادف ضيك.. ممكن يبقى نهار
الليل سهران على شباكي، مستضعف قلبي،
ومستهون باللي انا رسماه
)
– و الزمن:
( بيخاف - سهران - رسماه- صادف-يبقى - هاترجع)
حيث يشاغلها حزن رومانسي ثم تجمع ما نثرت في نهاية المقطع الاخير في صورة فنية لا تكتمل الأ بقراءة القصيدة كلها فتتأكد المداخلة التامة بين الدوائر
(
الليل سهران على شباكي، مستضعف قلبي،
ومستهون باللي انا رسماه
وباين له في حد مبينله إنك مش جاي)
5- في توقيت الدخول للروح نقرأ القصيدة التي منحت الديوان اسمها (في توقيت الدخول للروح )، حيث البناء تائم على الغنائية، ولا توقف بحيث تتبدى كليتها مطلقة بلأ فواصل، هذه الغنائية يدعمها من الداخل
– إصماتة صوتية
( وأذن في الوجود عشقك
عشقتك وقت ما أذن)
فأذن المتكررة تؤكد المعنى وتضفي على المقطع موسيقاها الخاصة التي تمتد الى دإخل القصيدة
( بحبك من زمااان جدا، وعمري ما عشت من غيرك
ًّ
باحبك وانت بتغني، وتنشد للبنات الحور
باحبك لما تحزنلي، يا أصدق أمنيات النور
باحبك كاس غرام يحلى على شفايفي نبات سكر) وحتى تصل بنا الى المنتهى
( وجاء التوكيد في أبهى صوره في الحب لما يحزن لها ويحلى على شفاها في أجمل تشبيه مثل نبات السكر )
هذه المحافظة على اصاتة التشبيه في غلبتها ودفعت بها الى استحضار المعنى نثرا الان الاوجب للشعر أن يكون الحضور غائبا.
– تسجيع ومجانسات لفظية
( بعشق لما باتهجى.. قطوف همساتك السكر
وتحلى الآهة ف رحابك، ويحلى الشكل والجوهر )
ويمتد التذاذها بالتسجيع والمجانسة
( واحبك لما تهمسلي: "بادوب في الحنة والمرمر"
وبإيديك لما يعلى العزف، حاجات للروح بتتفس )
هذه الموسيقى المستمدة من وقع كلمات ذأت جرس واحد، مثل " الروح / بتتنفس " و"الحنة / والمرمر " ليست محضا حيلأ فنية، بل هي تؤكد محاولة تقريب الشكل من المضمون، وتعطي القصيدة خصوصيتها التي تشبه العزف المنفرد على وتري الغياب والحضور اللذين يصبحان عند المنتهى صنوين
6- ثم يتلو ما سبق مجموعة من القصائد الغنائية، ففي (النهارات الجميلة) يستحيل الزمن ألى ذكرى، حين نستعيدهـأ تترأوح بين العادية وغبر العادية، بين جدلية النهار والليل، حيث ينسخ أحدهما أحاسيس الآحر
( وبإيديك لما يعلى العزف، حاجات للروح بتتفسر
ساعتها بابقى عايزاك بس، وعايزة الدنيا دي )
لكنها حين تؤول الى ذكرى:
(
عشان تبقى الحياة بإيديك، ويبقى الموت حياة أكبر)
7- وفي النصوص تبرز احاسيس عدمية تغطي مسطح القصيدة بمخاوف الموت التي تتبدى في ( وبإيديك لما يعلى العزف، حاجات للروح بتتفسر
ساعتها بابقى عايزاك بس، وعايزة الدنيا دي تقصر
عشان تبقى الحياة بإيديك، ويبقى الموت حياة أكبر) ذلك الموت الذي يتهدد الروح يصادر كل المفردات الشعرية التى تساوي الحياة نفسها (
عشان تبقى الحياة بإيديك، ويبقى الموت حياة أكبر ) وينشأ صرأع بين الموت الحال والحياة التي تنجسم في ارادة القلب
( وبإيديك ملا يعلى العزف، حاجات للروح بتتفسر
ساعتها بابقى عايزاك بس، )
8- القصيد ة (رؤية ) حيث القصيدة سلسلة من العبارات المتتالية البسيطة الواضحة كل الوضوع، تفضي الواحدة إلى الأخرى كأنها تناغم النشيد بما يناسب للمقام، أليست البلاغة بقول الجرجاني (ما جاء من القول مطابقا لمقتضى الحال)
هنا تتوارى الصورة المجازية القائمة على ايجاد علاقة ليست موجودة في الاصل عند الموازي الواقعي التي فاجأتنا في القصائد السابقة، وينفسح المجال لنوع من التناغم الداخلي والعلأقات الجدلية الممنطقة طبقا لقانون القصيدة وحدها ( أنا شفتك زي ما كنت مالك مسكون بالطيبة وبالغية
مجذوب واخداه الآه لبعيد، والذكر آيات الحنية
حبات اللولي اللي ف عرقك وقت ما بتدوب، زادوا شوية )
حيث تحيل الشاعرة ما هو منتسب أصلأ الى العقل الى محض عاطفة، فهي تهب الذأكرة للقلب ليس من خلأل علأقة رؤية مجازية في حلم بل من خلأل تقرير اخباري وحين يصبح المجذوب بالطيبة محبوبا بمفهوم الابدال النفسي للمعطى القبلى، ترتفع به الشاعرة الى كيان خفي قدسي ( أنا شوفتك زي ما يكون ملاك مسكون بالطيبة وبالغية )
ثم تعلو بالعلأقة في حنو شجي كأن الواقع حبيبها وحدها (مجذوب وخداه الآه لبعيد والذكر آيات الحنية )
وهي تتخذ من علأقة التأكيد والنفي القائمة بين (أنا) و (ما) أساسا لطرح العلأقات ألجدلية ألقائمة داخل القصيدة بحيث يصبح الصراع وأضحا جليا بين الحلم والواقع.ثم تخرج في النهاية وتعلو بالعلأقة عن فرديتها الى الجماعية حيث يتحد العشق في المجموع ( أنا شوفتك بس ماشوفتش فين الحب بيجمع عشاقه )
لكنها تسقط في خاتمة القصيدة في أفتراض بائس ( ولا إمتى الفجر بيبدر نور )، لأن الحبيب الذي لوحت لنا في أول القصيدة بوجوده الخفي المسيطر لا يجوز لها امكانية موته في قلبيها حتى وان سألت (ولا فين بيصلوا صلاة القرب على روحه القتلاه أشواقه ).
9- سكة التايهين
قصيدة من أربع حركات تذكرنا بتقسيم السوناتا، فالحركة الأولى (حديث) الايقاع الموسيقي يتحد باللغة على نحو من هدوء متعمق حزين، الامر الذي يبطىء موسيقى اللغة ويحد جوانبها ويوشيها بمشاعر رومانسية، جدليتها (هو )
( على ليل وعتمة كل مرة نفوق.. شمس في حياتك مش صايبها شروق )
والحركة الثانية ( وضوح) متصاعدة سريعة تواكب تسارع حركته (هو) فقط
(مش ضل لكن مش نهار واضح )
الحركة الثاللة (الضوء) توضح التناقض بين المجىء ولوعة الرحيل، فينلكس بطء الوقم الذي يصاحب المشاعر الخاصة بـ (هي)
(قمرة عيونك مش واصلها الضوء).
الحركة الرابعة (الطيبة) تأتي متأملة ذاتية متفلسنة تستمد نفسها من موسيقاها الداخلية
( في حاجات بتسرق روحنا وأتغيب .. من فين هايبدأ قلبك الطيب )
هكذا بعد زمن حين يصبح الحلم فراقا والزمن ملامح وعيونا تطل فى عتمة البخت والذكريات فلا نرى سوى (بحلم وحلمي بخت ناس تانيين )
10- ثم في مجموعة من القصائد القصيرة الغنائية المتتالية القائمة على الرؤى الذاتية للشاعرة وعلى الصور الجزئية، نقرآ:
قصيدة (فقد) وفيها تغازل الشاعرة ذلك التوق الأصيل للأنعتاق من القيود التي تفرضها الحضارة على الحرية الشخصية
(أصبح في بين روحي وروحي مسافة كبيرة بطول العالم ) وفي (روحي) خروج على أجماع بطول العالم وتأكيد على ذات الشاعرة وأكثر على حريتها المستمدة من تحققها بالفن والقصيدة:
(فارق ما بيني وبينك ملامح شكل الكون حزن وشك بعمق الحيرة اللي بتفرض على قلبي الردة )
وفي (ضي الروح):
نزعة فلسفية قديمة توازي ذلك الحس المرهف الاحساس الذي يتواتر داخل القصائد، ليجسم لحظات بعينها من فرع او أسى أو خوف من خلأل مفرداته الخاصة، غير أنه هنا يجىء ممتزجأ بهذه النزعة الفلسفية التي قال بها الطبيعيون، وهي أن الكون كله وحدة واحدة، ثم أخذ بها الرومانسيون حين آمنوا بأن إلطبيعة تتحد بمشاعر البشر في هذا الحوار الراقي للعاشقة، تقول القصيدة:
(أمانة عليك لتستنى تزيدني من الحياة بصه.. أمانه عليك وضي الروح تسيبلي من الحنين قصة.. وهدي الشوق كمان حبة وقول للصبر يتوصى)
هذه القدرة على الفعل التي تفرضها اللغة داخل المقطع / القصيدة لعناصر الطبيعة حيث المناجاة للحبيب برجاء تزف الى القلب أن يصبر ، والحياة ترجوها الإنتظار ببصه من العاشق ، فيتأكد المعنى الطبيعي بالاتحاد بين العناصر، لكن من يوقف جموح الشعر وتقلب أحواله إلظاهرة بالشعراء وهم و كل واد يهيمون، عندما تعود الشاعرة ألى تأكيد أنسانية المعنى وتفرده وانفراد الانسان به في قصيدة (نفسين من صدر الحلم ) كأنها تناقض الموقف السابق وتؤكد في آن واحد (ونهاية القصة حكاية وقت حفظاها وحفظاني.. أنا برضو مكنتش قوي صدقتك)
موقف الفقدان الذي ولعت به الشاعرة في غير قصيدة بين ثنايا الديوان، هنا يفارق في البناء القصائد الاخرى( راجع في توقيت دخول الروح وفقد وخلفية عمر) فهو يعمد الى بساطة العبارة ووضوحها، والتماس الشعر في ألمعنى الكلى المنبثق من حالة الحب والحلم والصبر و الفقدان والموت المباشر الذي يفرق بين الأحبة, بينما في القصائد الأخرى يزاوج بين المشاعر والطبيعة ويعمد الى محاولة تأكيد الحالة او اعلأئها بالصور البلأغية، ولا يفسد جمال القصيدة وبساطتها وبناءها سوى كلمة واحدة هي كلمة المناجاة مع الحبيب ، فحالة القصيدة قائمة بدونها واضافتها تعني احالة الشعر الى ميلودرإما قديمة، بالاضافة الى خروج ألكلمة عن السياق التشكيلى القائم على تلمس حزن الفقدان.
ثم تجيء قصيدة (بستان غنا) على مبنيين هما أمتزاج الانسان بالطبيعة، وتداخل المشاعر في المعاني، هنا تعلو حالة من الوجد والتوق متخذة من كلمات الاستحالة لولا، حتى، لو، أداة لتصل بناعند نهاية القصيدة لإنعدام الفعل أو توقفه عن التحقق، ففى المطلع (ياسكة اللي يروح نستحلفك بالله.. لترحمي المبتلي ومبتبخليش بالبوح... واحكي الحكاية فرح مش كله نزف جروح ) والحركة الجدلية القائمة على المحاورة تنتهي الى حالة من الادراك الساطع المشوب بالحنين والألم اللذين تنتهي بهما القصيدة:
(إيمانا صدق وقدر مالناش جمايل فيه)
لكن الشاعرد في (في حضرة الاحساس ) تفقد خيط الشاعرية، وتكتب نثرا شعريا تقص فيه عن امرأة من زميلأت الطفولة، كانت الأجمل وألابهى تم سقطت في تجربة حب وزواج أضاع فرصتها وبهاءها، وتحاول القصيدة أن تمرر لنا الشعر في لغة وأقعية حكاءة تقريرية، تقول في نهاية القصيدة (حلاوة حب وعبادة وأنا اللي في قالي 100غنوة وكام موال.. وألف من القصص يتقال مافيهم قصة متعاده.. بأحبك في الأمل روحه وباعشق لما يتهجى حروف الصدق من صوتك ).
وفي (حلاوة روح ) تراوغنا الشاعرة والقصيدة حين نحاول مقاربتها واكتشاف معاملأت الشعر عندها، وفي حداثيتها تقلب العبارة القديمة المعتمدة (أن المعنى ألكلى ليس من الشعرية في شيء، ألمعنى الجزئي هو أساس الشعرية) بحيث يمكنها اعادة الصياغة علي المحو التالي (ان المعنى الجزئي ليس من الشعرية في شيء، المعنى ألكي هو أساس الشعرية)، ولا تسمح لنا إلا بقراءة القصيدة كلها, حيث يقع التناقض من المفتتح (يتحمل ويتعلم …. ويتعلم )
وتتمتل علأقة الروح الثلأثية في ثنائية الموقف في المقطع الثاني.
و ( أنا قلبي بيعدي عليه طريق قطرك يامسافر جوايا ) يتبلور الموقف ويصبح التناقض التام واضحا، بما هما ممثلأن للقهر وبما هي ممثلة للتمرد، وفي المقطعين الثالث والرإبع، تكشف التحمل الشديد وتتجاوز الصعاب فهى:
(وبيتحمل رغم جراحك يتعلم فيه وتسيب على كل صمام بصمة )
وفي (دمع البنفسج ) تطرح الشاعرة علأقة الحبيب الذي تبدلت أحواله وبالاشياء بما هي وجود فني يناقض الحياتي العادي، ويخالطه التصور والظن، وكأنها تستلهم ايليا ابوماضي في بيته الرائع:
ومن نفسه بغير جمال لا يري في الوجود شيئا جميلأ
ومن يقين بأن الفن نقيض للواقع وموأز له في آن واحد، وبمقدار الجمال والقوة الفنيين يكون الحكم له اوعليه
(فرط ليه مين حرضك ضدك.. ولمين يقيد الحب قنديله.. خليت شموس الفرحه تتبدد.. قلبي النهار ميل على ليله )
فالعلأقات العاطفية في الموضوع ألخارجي بالنسبة للشاعرة علا بركات ليست الأشياء بما هي عليه بل رؤيتها لها، احتضانه النفسي، حنوه وترفقه او حتى ابتعاث الجمال من قبحها وتشظيها, هذه الرؤية وان كانت للشاعرة وحدها فهي أبدأ ليست أحادية ثابتة بل جدلية دينامية، وجزاؤها الإبدي:
(خسران رهان الصدق في عيونك )
في (مسافة نظرة) يخاتلها الشعر وتفر جنياته الندأهة, ففي هذه الغنائية القائمة علي تكريس النص المبتدع لحمل عدد من العلأقات بين المطلقة والنسبي (البحر- أمواج - الأمل - الخوف- الموت)، وفي محاولتها لانتظام محموعة العناصر المتنافرة أصلأ تلجأ الى بعض الصياغات الجاهزة التي تسربل العلأقة (من سريالية) في خروج عن قانون كليتها (وبتسلمني لقيود الملل والموت.. مفيش غيرك طريق تاني بيختارني وبختاره)
يظل البناء قلقا منذ المفتتح، فيختفي القصد لكن المتضمن لا يشي به، ولو استثنينا ما دأب شعراء الحداثة من الولع به من (بحر.. قيود.. ملل.. موت ) سيبقى
(في بحر كبير و أمواجه مبتعدوش) هكذا تفقد القصيدة دفعها وتلتمس النثر فتتلأشى الشعرية.
لكنها تعود لتوزن صوتها وعودها الشعري ، فتتسق النغمات وتتقارب وتعاود العزف ففي (نحت الروح) صورة نفسية لخلفية الروح عند كثير من الرجال والنساء، حيث يراه الرجل لحظة عابرة عند الموت، تراه المرأة بدءا وانتهاء، ثم تعلو باللحظة، فالذي يساوي عنده هزة النشوة الزائلة يتعادل مع حزنها السيال وتوقها للحب الأبدي:
(طيرت أنا كل طيور العشق.. وهمست بأغلى حروف الصدق)
(لمحة):
هي قصيدة تعتمد نهجا تركيبيا من ثلأثة مقاطع، تتصدر مفتتح كل مقطع (لمحه) وهي تقيم جدلية القصيدة على ثابت واحد هو انعكاس (لمحه) على مفردات الموجودات داخل القصيدة مستخدمة الصور التي تقع في عدد من التتاليات الممنطقة بمنطق خاص يناسب القصيدة، يزاوجه بناء للأصوات مستفيدا من وفي القافية بما يمثل (موتيفا) غير كاملة
(مابين الموت وبين الفجر وشروق الحياة لمحة.. وقلب بيقسم المسافات ما بين الحزن والفرحة )
ويستمد المجاز نفسه من التشبيه بـ (مثل) التي تمتد من المقطع الثاني بعد افتراضها مرة في مفتتحه
(وغنوة عمري تتلحن بنبض الحب في القلب اللي يعرفني، ويعزفني أمل أخضر )
ثم مرة أخرى:
(وتر مشدود على خصري يكمل زينة المشهد )
ويظل التشبيه ممتدا عبر المقطع الثاني ليلحق أثره بالمقطع الثالث دون الحاجة للأداة:
( بلاش دمعك تطبط بيه على روحي.. وتمسح كل أوجاعي ج)
وفي (شبه الحياة ) تعود القصيدة الى الحومان حول الفقد فتجسده في لحظة وداع قاسية بين رجل وامرأة، وتعتمل بالمشاعر الانثوية المصاحبة، وبما يمثله الرجل في المتخيل حين يصبغه الحب، فيبدو أكبر وأجمل وأذكى وأحكم، عندها تصبح لحظة الفقد مساوية للضياع التام والحزن المتمكن الذي يلف أقدامه كالاخطبوط حول الروح، تقول القصيدة:
(في لحظة صدق بحتاج لك.. في لحظة يأس لاء خليك )
تتصاعد التجربة فتصبح الروع في منطقة وسيطة بين اليأس والرجاء، وتتمهد للخروج من جحيم التجربة، أليس الحب كما يقول جلأل الدين الرومي (الحب عذاب، الحب يقتل)
( وكلمة أهلا أزيك بمعنى اشتقت لوجودك )
وحين يصير الفقد يقينا صراحا:
(وقلبي كل ما يبعد يقرب روحي لحدودك )
تعتمد القصيدة نهجا قائما على التتالي بمعطى درامي في الأساس الا انه يعطي التجربة امكانيتها وتماسكها.
وفي (شعاع الدهشة ) وهي قصيدة تبدأ بمقطع نثري قصير:
(تلال التلج بتحاصر دفا شمسك )
شيئا فشيئا ندرك أن العلأقة بين الشاعر والاشياء (لدفا) ليست علأقة ثبات بل علأقة تفاعل، فمن هذه الشمس الذي يتلبسها ينطرح دفء أكبر، يتتالى:
(وأنا وحدي بواجه يأسك الغايم وباستنى أنا والنور )
وفي المقطع الثاني تحيلنا الى حالة من الحزن الوجودي الدفين من مرور الوقت دون أن نبلغ المعرفة، بل والتأكد من مروره دون أن نفعل
(وطاقة عشق بتنور ضلام أمسك.. شعاع الدهشة من حضنك بيكسر شوكة الحرمان )
(فرحة)هو عنوان وسؤال معا، هو كلاهما بالنسبة للقصيدة التي تنهي بها الديوان الشاعرة المتميزة علا بركات ، فالشاعرة حين يصيبها ما يعرف في السيكولوجيا (writer block) او التوقف عن الكتابة يفعل المستحيل في سبيل الدفاع عن موهبته، لكنها هنا التجربة الشعرية نفسها تأمر وتنهي و تتساءل (كيف أتمت القصيدة في آخر قصيدة فرحة ؟
قوم من يأسك فوق واصحى الحق فرحة"
وتصعد بالنصبحة الناهية التي هي مناط البناء
(لو بتشوف العالم صادم فتش فيك وهتلقى المرسى... بكرة هتصبح فعلا نادم.. لما الدنيا بجد هاتقسى دوس على حزنك اهزم خوفك )
لكنها في النصيحة في هذه الحالة بالنهي الآمر تكتشف الشعر:
(قوم من يأسك فوق وأصحى... اصنع بسمة تكون على قدك وتكفيك وتدوم)
وما الشعر؟ أهو الشعلة المقدسة المختلسة، الجذوة التي تضيء بصيصا في روع الشاعر حين يدين له القلم، وهي أيضا ذات النار التى تؤلم حين تراوغنا التجربة
وأخيراً:
في هذه السياحة بهذا الديوان ( في توقيت الدخول للروح) وعند نهايتها أجد أن قصائدها متنوعة مستفيدة من المعطى الشعري على امتداد حركة الشعر العامي الحديث ، لكن بقدر الاستفادة بقدر الخصوصية، بحيث يمثل الديوان وشاعرته المبدعة الرائعة علا بركات اضافة خاصة، لعل قراءتي تكون قد أضاءت بعض جوانبها.
تحية حب وتقدير لشاعرتنا الرقيقة الراقية علابركات ، وإلى لقاء متجدد في عرس ديوان جديد يصدر لها لنتلقفه بكل حب ولهفة وحبور.
دراسة نقدية
بقلم /حسن غريب أحمد
شاعر قاص روائي ناقد مصري