(1)
"تحيا فلسطين عربية حرة، القدس لنا.. القدس لنا.. القدس لنا"
بعد عودتي من المدرسة، بحماس ألقيت حقيبتي جانبًا ورحت أمام مرآة دولابي المخدوشة أردد هذه العبارة لأحفضها دون أن أفكر بمعناها، هكذا طلبت مني المعلمة في مرحلة أولى إبتدائي، حتى نتلوها على طلاب المدرسة في طابور صباح، رددتها طويلًا وأن أرتدي زي كشافة بلون الشوكولاتة ومطبوع في أعلى فتحة صدره من جهة اليمين صورة لمدينة القدس بجوارها علم فلسطين، وأضع على رأسي قبعة قماشية مماثلة للون الزي.
حتى في الساعة السابعة من صباح اليوم التالي، نصطف بانتظام، ونأخذ الإيعاز، فنرفع رؤوسنا عاليًا باتجاه علم فلسطين الذي تراقصه الرياح، حتى يصدح النشيد الوطني ؛ هذه احدى المشاهد التي عشتها قبل 20 عامًا وتتكرر بشكل شبه يومي مع بعض الأطفال في فلسطين، أما البعض الآخر، فقد أنتزع عنوة من بين أحضان أسرته قبل مدرسته!

(2)
هل كان عرسًا للضياءِ
فزغردت أم الشهيد
أو أنها في يقظة تتوهم؟!
أفراحُها هذي!
أو أنه حزنها خلفَ الضلوعِ
وصيحةٌ في صمتها
فتفجرت بجنونها تتألم... "الشاعر الفلسطيني سليم مخولي"
فكيف لأمِ تزغرد بيدِ وتسدل راحة كف يدها الأخرى على رمش نجلها المتهدل، وعيناها حمراء تدمع كزجاجة مكسورة، وهي تحدق في جثمان طفلها الذي أستشهد متأثرًا بجراح أصيب بها عند اعتقاله خلال أحداث المسجد الأقصى الأخيرة عام 2017، بعد إغلاق الاحتلال الاسرائيلي المسجد الأقصى أمام المصلين ومنع رفع الأذان للمرة الأولى منذ عام 1969، هالني ذلك الحدث أثناء تصفحي للأخبار على موقع (تويتر)؛ رحل محمد إلى جوار أبناء جيله من الأطفال، كالطفل الرضيع علي دوابشة (18شهرًا) الذي استشهد حرقًا على أيدي مستوطنين اسرائيليين في مدينة نابلس، وكالشهيد نديم نوارة (17عامًا)، ومحمد أبو ظاهر (16عامًا)، ولا أنسى عندما كان عمري 9 سنوات حادثة اغتيال محمد الدرّة (11عامًا) وهو في حضن والده بدمٍ بارد وبصورة غير مشروعة، وغيرهم كثيرون.

(3)
هكذا نشأنا نحن على طريق ازدواجي في حياتنا اليومية ما بين أهات وأحزان لما يتعرض له المسجد الأقصى تارة وبين جهادِ دائم وفرحة في كل شهيد تارة أخرى، مشاريع أطفال مدركة لقضيتها منذ عمر السنوات الست، إذ من ذاك العمر يتوجب علينا معرفة أهمية المساحة التي تصل إلى(125,1) كيلومتر مربع، ويحتلها الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1967 بعد حوالي 700 عام تحت حكم المسلمين، ومنذ احتلال مدينة القدس والفلسطينيون يواجهون أقسى حملات الاعتقال والقتل والتشريد ولم يستثني الاحتلال أي فئة عمرية من فئات الشعب الفلسطيني حتى الأطفال، فاستشهد حوالي (2026) طفل بفعل اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي ما بين عام 2000 إلى عام 2017 وفق إحصائية الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال، وقدّر قُرابة الـ(350) طفلًا قاصرًا معتقل في سجونه ويعيشون ظروف القهر والحرمان في سجون، مثل سجن “عوفر" و"مجدو" وغيرهم، بحسب تقارير هيئة الأسرى والمحررين، فضلًا عن عدد لا يحصى من الأطفال الجرحى.

(4)
كنت في مرحلة الرابع الابتدائي من عام 2000 حين انطلقت انتفاضة الأقصى الثانية، وآنذاك دعت منظمة اليونيسف "صندوق الأمم المتحدة للطفولة" ومنظمة العفو الدولية ومنظمة بتسيلم إسرائيل إلى حماية الأطفال من العنف بما يتفق مع اتفاقيات جنيف وبروتوكلاها الإضافيين عام 1977.

وبموازاة تلك الدعوات على مدار الأعوام، إلا أن انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي وخرقه لمبادئ القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني لا تزال تحدث على نطاق واسع في قتل الأطفال الفلسطينيين، فقد شكلت حادثة حرق الطفل المقدسي محمد أبو خضير قبل 3 أعوام على يد مستوطنين إسرائيليين، حينما عُثرَ على جثته في أحراش دير ياسين غرب مدينة القدس، موجة احتجاج واسعة بين الفلسطينيين عمت مدن عديدة، وقوة دفاع مضاعفة عن الأرض والعرض ولو بحجارة صغيرة، وإلقاء الحجارة  احدى ذرائع  الاحتلال لسجن الأطفال أكثر من 10 سنوات، وهذه التهمة هي الأكثر شيوعًا بحق الأطفال الفلسطينيين، وهنا أذكر متقطفات مما سطره الشاعر نزار قباني في ثلاثية "أطفال الحجارة":
علمونا
 كيف الحجارة تغدو
 بين أيدي الأطفال 
ماسا ثمينا..
 كيف تغدو 
دراجة الطفل لغما 
وشريط الحرير 
يغدو كمينا..

(5)
وككل الأشياء الراسخة في ذهني، كان أول تأريخ شخصي لحب مدينة الرسل والسلام، عندما كنتُ في الصف الخامس الابتدائي، كانت الكُراسات بألوان ورسومات كرتون مختلفة، ولكن ما لفت انتباهي رُزمة كراسَات اصطفاها والدي لي ولأخواتي، عليها صورة باللون الأحمر لمدينة القدس، أصبح هناك عشق وتلاؤم مع الصورة يوم بعد يوم، جمال شكلها وحديث والدي عن الأهمية الدينية العظمى لها، وأنها تعتبر ثالث أقدس الأماكن في العالم والمكان الذي عرج منه نبي الإسلام محمد بن عبد الله إلى السماء، كان يثير ثورة داخلية في الطفلة التي كنتها، وفجأة خطرت ببالي فكرة طفولية، وهي أن أي كراسة أخرى عليها صورة كرتونية، ألصق على الصفحة الأولى صورة لقبة الصخرة! وبالفعل نفذت فكرتي بحماس طفولي وشعرت بفرح أشعر به حتى هذه اللحظة التي أكتب بها هذه المقالة. 
أما في عقول (الإسرائيليين (فقد رسخت أيديولوجية قتل الأطفال الفلسطينيين، وانتقلت إلى مناهجهم التعليمية وحتى الأدب العبري "الاسرائيلي"، فمثلًا على سبيل المثال المتطرف الإسرائيلي (ييغئال ماسيتيون) أصدر كتاب خاص بالأطفال، سماه (عصابة حصبمة) يدور حول عصابة سرية للأطفال اليهود، تهزم أعدائها من الأطفال الفلسطينيين بسهولة ويسر وذلك من خلال مغامرات عنيفة تكلل بالنصر، بحسب ادعائه.

(6)
(خلاصة)
الــ 45 ثانية التي هاجم بها رئيس الأمة الكويتي مرزوق الغانم وفد "إسرائيل" في منتصف أكتوبر من هذا العام، مخاطبًا رئيسه، بقتلة الأطفال ومرتكبي جرائم إرهاب الدولة، خلال مؤتمر الاتحاد البرلماني الدولي المنعقد بروسيا، ثواني كافية لطرد الوفد من القاعة، ولكن الممارسات الشنيعة التي يتعرض لها الأطفال لا تحصيها ثوانٍ ولا أيام ولا سنين، فأرض الواقع تكشف الستار عن هول حقيقة أوضاع الأطفال في فلسطين وعلى وجه الخصوص في مدينة القدس الخالدة، بفعل الاحتلال الإسرائيلي الذي تربى على عقيدة العنف وثقافة الكراهية على يد بن غوريون وغولدا مائير وشارون ونتنياهو وغيرهم.
وإنني لأؤمن بزواله حتمًا، كما أزيل الاحتلال الصليبي الذي سبقه بأعوام طويلة وحكم القدس 88 عامًا قبل أن يحررها صلاح الدين الأيوبي، مع أن أحدًا لم يتخيّل حدوث ذلك قط، فكيف لنا أن لا نؤمن بزواله وبحياة طبيعية لأطفالنا بعد هكذا تاريخ؟