Image title
صورة غلاف الكتاب الذي يعد المصدر الرئيس لهذه التدوينة

عندما أتأمل مسيرة بعض من قاموا بصنع التحولات التاريخية أجد بأنه لابد من أنهم قد وصفوا بالمبالغين أو حتى بالمجانين .. وهذا ليس بمستغرب فلو كان مايحلمون ويبشرون به من المعقول بمقاييس من حولهم لما كان ابتكارًا يشكل قفزة نوعية تترك أثرها في الحياة .. وإيلان مسك ليس إلا امتدادًا لهذه الفئة من الرواد الحالمين بأحلام تعد من المبالغات وإن كانت في عصر تسارع تقني مذهل .

 انتقل إيلان مسك من جنوب إفريقيا إلى كندا ثم إلى الولايات المتحدة لإكمال دراسته الجامعية ليخوض من ثم تجربة صعبة في ريادة الأعمال التقنية مع أخيه كيمبال فقاما بتأسيس (zip2) لبرمجة دليل للصفحات الإعلانية الصفراء  (yellow pages)  عاش إيلان خلالها على الكفاف إلى أن تمكن من بيع محتواه على الصحف المطبوعة  ليستثمر أمواله بعد ذلك في شركة ناشئة للمدفوعات المالية الإلكترونية "PayPal"  والتي لم تلبث علاقته مع فريقها المؤسس بالتدهور ليتم خلعه من منصبه الإداري فيها ، ومع ذلك فإن نصيبه عند بيعها إلى رائدة الحراجات الإلكترونية "Ebay" قد حقق له استقلالاً ماليًا ليبدأ في تحقيق حلمه بتأسيس سلسلة أعمال تجارية تقنية تسعى لتغيير العالم مثل تسلا (Tesla) للسيارات الكهربائية  وسبيس إكس (SpaceX) للنقل الفضائي منخفض التكاليف وسولارسيتي (SolarCity) للطاقة الشمسية و هايبر لووب (Hyperloop) للمواصلات الأرضية فائقة السرعة وغيرها في الطريق.. سأقصر حديثي هنا على قصة إيلان مع سبيس إكس لأنها كانت أكبر مفاجأة لصناعة تعد تقنيتها صعبة ومحصورة على قليل من الدول وبعض الشركات العملاقة.

عكف إيلان مسك كعادته منذ طفولته على قراءة كتب فيزياء الصورايخ وطريقة عملها  فألم بحساباتها الأساسية كما انكب على دراسة سوق الفضاء فوجد زبائنه المستهدفين من شريحة الجهات الناشئة التي استفادت من التقدم السريع في مجال الإلكترونيات وتصميم الأقمار الصناعية الصغيرة  لتصنع أقمارها لكن تكاليف توصيلها الباهظة إلى المدارات المناسبة تشكل عائقًا كبيرًا أمامها. فمع وجود طلب متوقع كبير في السوق اختار مسك بناء مركبة فضائية تنقل حمولات صغيرة خفيفة يسهل التعامل مع متطلباتها وتساعده على القيام برحلات متعددة قليلة التكلفة لتحقيق أرباح أكثر. وهذا مايميز إيلان مسك فهو ليس مجرد مهووس بالعلم واستشراف المستقبل فقط  بل رجل أعمال من طراز رفيع بارع في تحصيل الأموال وتسخيرها لمشاريعه. كان لدى إيلان حوالي ٢٠ مليون دولار حاول بها مع الروس شراء ٣ صواريخ باليستية يعيد توضيبها ومن ثم استخدامها لتحقيق هدفه بشكل سريع ومنخفض التكاليف لكن الروس هزؤا منه واعتبروه شابًا طائشًا لايعي مايقول بل إن أحدد المصممين الروس قام بالبصق عليه خلال أحد اجتماعاته المتكررة معهم وليست هذه أولى ولا آخر الإحباطات التي واجهته.

عندما بشر إيلان بتخفيض تكلفة نقل الأقمار الصناعية إلى مداراتها إلى العشر (من مائة ألف دولار للكيلوغرام إلى حوالي ألف دولار للكيلوغرام)  اتهمه أصحاب الصنعة بالجنون فلم يوقفه ذلك بل زاد من عزيمته فقام بمعاكسة أساليب عملهم بالكامل. فلقد قام بتجهيز  ورشة مساحتها ٥٥٠ ألف قدم كانت تملكها بوينق (Boeing) في ضواحي لوس آنجلوس لتضم تحت سقفها شركته الفضائية الناشئة سبيس إكس. تحت ذلك السقف الواحد يجري العالم أبحاثه و ينجز المهندس تصاميمه ويصنع الفني قطعه  في تداخل وتناغم مذهل بعكس ماتفعله كثير من شركات الصناعات الفضائية من فصل لعلمائها عن مهندسيها وعن مصانعها التي تبعد أحيانًا آلاف الكيلومترات سعيًا خلف المناطق رخيصة الأراضي والأيدي العاملة الوفيرة. ففي ذلك المبنى ماهي إلا خطوات تفصل بين المكاتب ومناطق لحام المحركات وتجميع الأنظمة الإلكترونية وطلاء المركبات وغيرها من الأنشطة. اتخذ إيلان أيضًا قرارًا استراتيجيًا مخالفًا للسائد بتصميم وتصنيع محرك الدفع الصاروخي بجهود ذاتية بالكامل لاعتقاده بأن هذه الطريقة ستكون أسرع وأرخص وأكثر مرونة في صناعة القرارات الفنية وأوكل تصنيع بقية أجزاء المركبة لمصانع متعددة. 

وجد مسك ضالته في مهندس صواريخ متقاعد من شركة تي آر دبليو (TRW) متيم بصنعته كان يبني محركات صواريخ في مرآب منزله خلال أوقات فراغه فترأس مهمة تصميم وتصنيع محرك صاروخي جديد. كون مسك فريقًا صغيرًا من الخبراء النجوم في صنعتهم ودعمهم بأفضل المهندسين الشباب حديثي التخرج من أفضل الجامعات والذين كان يسابق لاستقطابهم فكان يتصل بهم  في سكنهم الجامعي ويوظفهم خلال تلك المكالمات. لاشك أن اجتماع خبرة المخضرمين وعنفوان الشباب قد صبغ قرارتهم الفنية بشكل كبير. فالمخضرمون هاربون من قيود الصناعات الفضائية المعقدة والباهظة الثمن والشباب منفتحون على الجديد بطبيعتهم فكانت خلطة سرية بديعة ظهرت نتائجها في طبيعة منتجات سبيس إكس وثقافتها المؤسسية. فعلى سبيل المثال اعتمد فريق التصميم سياسة اختيار مكونات الأنظمة الإلكترونية من المتاح في السوق وابتعدوا عن ماتستخدمه ناسا من مكونات باهظة الثمن. ولإقناع ناسا قاموا بإخضاع أنظمتهم لنفس الاختبارات التي تجاوزتها أنظمتها بنجاح وبتكاليف أقل. 

أما عن الجدول الزمني فحدث ولا حرج فبعد حواراته مع  مستشاريه والخبراء والمهندسين توقع أن يتمكن من إنجاز مهمة تصميم وتصنيع الصاروخ واختباره خلال ١٥ شهرًا فقط وبالطبع لم تكن حساباته واقعية أبدًا حتى أن أصحاب الورش كانوا يصفون مواعيد التسليم بالمجنونة.  بعد عدد محدود من الاختبارات غير مكتملة النجاح حققت سبيس إكس أول إطلاق ناجح لها عام ٢٠٠٨ بتأخير حوالي ٥ سنوات ونصف عما كان يتوقعه مسك ومع ذلك يعد ذلك وقتًا قياسيًا لتطوير مركبة فضائية بمحرك جديد واختبارها ودخولها السوق.  لقد تحقق أول حلم لمسك وهو إنجاز يعد من إنجازات دول تعد على الأصابع قامت به شركة ناشئة قليلة العدد في وقت قياسي وبجودة أعلى وتكلفة أقل .. تجربة إيلان مسك وإنجازاته التي مازالت في مهدها وأحلامه التي توصف بالمبالغة تؤكد أن المبالغة من سمات الريادة.