كان الفيلسوف اليوناني ديوجين - ( ديوجانس الكلبي ) - يعيش بتقشف ويأكل الخبز والعدس ... ؛ و لما رآه الفيلسوف أرستيبوس القوريني , قال له :"لو تعلمت كيف تتملق للملك لما اضطررت للعيش على أكل العدس" ؛ فأجابه الفيلسوف ديوجين : "لو تعلمت أكل العدس لما اضطررت لتملق الملك"
نعم نظرتك للطبيعة الإنسانية وجوهر القيم والفلسفة التي تؤمن بها هي من تجعلك إمّا ديوجينيا أو أرستيبوسيا ... ؛ منذ القدم واجه الانسان الحياة وضغوطها وملذاتها ومغرياتها والنفس ونوازعها وشهواتها , وخرج من هذه المعمعة الكبرى والحرب الاولى بطريقين لا ثالث لهما , الاول : طريق الاقتصاد وعدم الاسراف والتقشف والزهد وتقليل الطلبات والاقتناع بالقوت والكفاف والرضا بالقليل من الماديات والشهوات والسمو بالنفس والايمان بالقيم والمعنويات والغيبيات ... الخ ؛ والطريق الثاني : طريق الطمع والجشع والاستهلاك وتحقيق الرغبات واشباع الشهوات واكتناز الماديات بشتى الطرق والوسائل والتصرفات والشعارات , ومحاربة او تسفيه الرؤى والافكار والعقائد التي هي بالعكس من ذلك ... .
ولكل من هذين الطريقين درجات ومستويات مختلفة وقد يختلط الطريقان احيانا في بعض التعرجات والمنحنيات , وعندها لا يستطيع التمييز بينهما الا من خبر الحياة وفهم احوال وتقلبات الدنيا , فالبعض قد يدعي انه من اتباع الطريق الاول الا انه في حقيقة الامر من المؤمنين بالطريق الثاني ؛ وقد كشف هذا الصنف من الناس القائد الفرنسي نابليون بونابرت ؛ اذ قال : (( إنني محاط بكهنة يرددون باستمرار أن الدنيا ليست دارهم ،ورغم ذلك يضعون أيديهم على كل شيء يستطيعون الوصول إليه ! )) وقد اشار اليهم الامام الحسين قبل نابليون بعدة قرون , اذ قال : (( إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه ما درت معائشهم، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون )) فهؤلاء وامثالهم قد نصبوا شباك الدين لاصطياد الدنيا كما جاء عن بعض الائمة من ال البيت .
البعض يرى ان السعادة تتجسد في الطريق الاول والبعض الاخر يراها في الطريق الثاني , والبعض حاول الجمع بين الامرين ومزج الطريقين معا الا انه لم يفلح ؛ والبعض الاخر اخرج مصاديق خارجية من الطريق الاول واضافها الى الطريق الثاني بينما فعل البعض الاخر العكس ؛ فالمصاديق بمرور الزمن تطورت، وتوسعت، وتشعبت، لتتخذ مسارات مستقيمة واخرى متعرجة وملتوية ؛ محدثة تحولات كبرى في حياة الانسان , وطالما كانت الغلبة والانتشار للطريق الثاني ؛ فالنفعية والشهوانية قوة طاغية في الحياة , بينما نرى قلة السالكين في الدرب الاول ؛ ولهذا اطلق حكيم العراق مقولته الشهيرة : ( لا تستوحشوا طريق الحقّ لقلة سالكيه ) .
ولا نقصد من كلامنا هذا ان يترك الانسان نصيبه من الدنيا او ندعوه لعدم التمتع بنعم الحياة وخيراتها وملذاتها ؛ انما نحاول التفريق بين الطريقين , فالبعض لا يعير اية أهمية للقيم والمعايير الاخلاقية والقانونية والانسانية في سبيل الوصول الى أهدافه او اشباع رغباته وشهواته ونزواته ؛ بينما يسلك البعض الاخر الطرق المستقيمة والقانونية والانسانية لتحقيق مرادتاهم واهدافهم , فالمناط في اشباع الرغبات نوع الرغبة وكذلك نوع الوسيلة ؛ فلا يستساغ الحق ان كانت وسيلته باطلة , ولا تبيض صفحة الباطل بحجة ان وسيلته حقة , ولا تنال الفضيلة بالرذيلة ولا ينصر الصدق بالكذب كما انه لا يجمل الحسن بالقبح , وقد أكد الائمة من ال البيت على اتباع منهج الوسطية في الحياة , اذ قال بعضهم : (( ليس منا من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه )) فما من احد منا يكره المال الا ان البعض منا لا يحصل عليه الا من خلال الطرق القانونية والمشروعة ويقوم بالأعمال والاشغال التي لا تتعارض مع وجدانه وضميره وقيمه الاخلاقية ؛ بينما البعض الاخر لديه استعداد بأن يخوض بحر من الدماء لأجل الدينار والدولار ؛ فالبعض يرى السعادة والكرامة والبركة في المال الحلال وان كان قليلا , لذا تراه لا يعمل الا في الاعمال التي تناسب اخلاقه وشخصيته , بينما نرى البعض لا يأبهون بنوع العمل ولا بنوعية ظروف الشغل , اذ لديه استعداد في ان يبذل ماء وجهه ويهين كرامته ويفرط بكل شيء من أجل الاموال , فالعمل في الدعارة او الجريمة المنظمة والعمل في التجارة لديه سواء ...!!
الشرفاء والاحرار يؤكدون على مشروعية الرغبات والاهداف اولا , ثم نظافة الوسائل المؤدية الى تحقيق تلك الرغبات والشهوات والاهداف , فهم لا يأكلون الطعام الرديء وفي المكان القذر بذريعة الجوع , فهؤلاء ينطبق عليهم قول الشاعر :
أرى إبلي بجوف الماء حلّت ... وأعوزها به الماء الرّواء
تمانع يوم ورد الناس إبلي ... وتصدر وهي محنقة ظماء
بل ان البعض منهم يصبر على الفقر والعوز والبؤس , ولا يمد يده الى الناس يطلب منهم العطاء , او تدفعه نفسه الى الذلة والبغاء , لذا جاء في امثال العرب : (تجوع الحرة ولا تأكل بثديها ) ولشدة عزة نفوسهم يحسبهم الجاهل اغنياء , وامثال هؤلاء قد جاء ذكرهم في كتاب القران الكريم : (( ... يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا ... )) فالبعض يعتبر السعادة في العزة والشرف والكبرياء والكرامة وبغض النظر عن الفقر والعوز واثاره ؛ بينما يذهب البعض الاخر الى ان السعادة في المال واشباع الشهوات بأية طريقة كانت وبغض النظر عن اخلاقية او انسانية الوسائل المتبعة لإشباع تلك الرغبات ؛ فهؤلاء يخضعون الاخلاق والشرف والقيم للشهوة والمال والمنفعة ؛ فلا وجود للأخلاق والقيم دون منفعتهم الشخصية ؛ فالمنفعة والشهوة والمصلحة الشخصية هي الأصل وهي الحاكم وهي السيد وهي الجوهر وهي الأساس والمعيار في تعاملاتهم مع الاخرين .
فلا تستغرب من تبدل طباع البعض عندما تزداد اموالهم او عندما يتسمنوا مناصب عالية , فهؤلاء الاموال والمناصب أعلى من ذواتهم التافهة وشخصياتهم الهزيلة وقيمهم الكاذبة وعقائدهم العفنة , لذا قال الامام علي في هؤلاء : (( إذا بلغ المرء من الدنيا فوق قدره، تنكرت للناس أخلاقه)) فالبعض ذاته ارخص من مئة الف دولار , وشخصيته أدنى من المنصب الفلاني , والبعض الاخر سعره لا يتجاوز المليون دولار , وهكذا هم كالعبيد في اسواق النخاسة , او كالبغايا من يدفع أكثر , يصبح سيدهم المطاع , وامثال هؤلاء كثر في مجتمعاتنا المأزومة فهم ينصبون شباك الدين او الاخلاق او القيم او الشعارات الوطنية ليصطادوا بها الدنيا والمناصب والاموال والجاه والنفوذ , وقد قال فيهم الشاعر قديما :
صلى و صام لأمر كان يطلبه ... فلما قضى الأمرَ لا صلّى ولا صامَا
فهؤلاء وان ادعوا التدين والاخلاق والقيم وان رفعوا الشعارات الوطنية والانسانية ؛ لا يتصفون بها, ولا يملكون معنى للإنسانية أو معنى للأخلاق الحميدة ، ويفعلون عكس ما يقولون , ويضمرون خلاف ما يظهرون , وفي هؤلاء يكثر العملاء والخونة والمرتزقة والقتلة والسفلة ؛ وكما انهم لا يحبون الخير للناس ويكرهون الشرف وان تشدقوا به .