-1-
“رُبّ أشعث مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبرّه”. العبرة بما أنت عليه فعلا، لا بما يظهر عليك. البس ما تشاء، لكن لا تكن واثقا بأن لبسك هذا هو الذي سيظهر ما تريد. نحن اليوم في زمان لا شيء فيه يشبه حقيقته. زمن الفوتوشوب، وعمليات التجميل والشد، والموضات المؤقتة بذائقة مصمميها، والملابس اﻷغلى من لابسيها. لا يهم مظهرك كثيرا، فمهما فعلنا، فلن نعرف الأشكال الحقيقية للبشر فعلا. قد يكون هذا السبب اﻷعمق للظهور كما ولدنا، حين نقف كلنا عرايا يوم الحساب. وتذكّر دائما، مرآة سيّارتك تخبرك في كل مرّة: “الأجسام في المرآة لا تبدو كما هي عليه في الواقع”.
-2-
يبدأ رمضان، ويظل أياماً معدودة. يبدأ الناس بالتحوّل تدريجيا إلى أشكال لم يكونوا عليها من قبل، ولن يكونوا عليها بقية العام، غالبا. يتحوّلون إلى كائنات رمضانية. لها أشكالها، نفسيتها، أخلاقها، تدينها، نفاقها، إعلامها، واهتماماتها. أنصحك ألاّ تستسلم للمظاهر، وأن تغوص عُمقا في مقاصد الفريضة: التقوى. وهي بالمناسبة، لا تتعلّق بشكل معين، أو حالة اقتصادية أو اجتماعية مُعينة. كل شيء هنا مرتبط بقراراتك الواعية للأشياء، وبمقدار تحمّلك لمسؤوليتك.
-3-
أنصحك أن تعيش رمضان بنكهة البحث. أن تؤجّل فكرة استهلاك الحسنات المؤقّت، والاتجاه إلى فكرة تأسيس وعيك. أن تتوقف هذه المرة عن اعتبار رمضان كعدّاد حسابٍ لمسابقات الختمات القرآنية، والتنافس بـ”هاه كم خلّصت؟!”. أن تعيش تجربة الوعي هذه المرة. أن تبحث عن معاني اﻵيات، بما يضمن لك إنارة الطريق بمنهاج القرآن. أن تلتزم مجموعة أحاديث شريفة، تبحث عن معانيها، وتحاول تطبيق تداعياتها الحياتية، أو تلك التي ستوضّح لك معانٍ قرآنية قد خفيت تكون عليك. أن تفعل كما فعل السلف، الذين اتجهوا إلى الاغتراف من الحسنات بعدما فهموا ووعوا ودرسوا وتدارسوا. وبالمناسبة، لم يكن أحدهم يتعمّد الاغتراف من الحسنات في رمضان وحده، إذْ كان برنامجهم الرمضاني، هو هو في غيره من الشهور، غير أنهم يزيدون من التعبّد، ما استطاعوا، وفي العشر اﻷواخر منه خصوصاً.
-4-
مفهوم القراءة، المفهوم اﻷعمق واﻷول في القرآن، يدعمه القرآن الكريم ذاته، فالله تعالى يقول: “ورتّل القرآن ترتيلا”. الترتيل، يختلف عن الهذّ، المكروه شرعا، في دلالة على أن الترتيل هو استشعار المقروء، والتمعّن فيه، من دون عجلة. الترتيل، أن تستحضر الشعور. أن تنطق الفكرة. أن تفهم ما تقول. الترتيل، أن تُظهِر محبّتك، فالمحبوب لا يُسمح له بالمرور سريعا!
-5-
تصوير السلف بالصورة الخارقة للطبائع البشرية، فيه ظلم لهم، وللخلف أيضا. تصويرهم أحيانا بأنهم تحوّلوا إلى آلات حصاد للحسنات في رمضان، يُكسِب الكثير منّا أحيانا، شعورا بالدونية حين يقارن فِعله القليل، بما لا يستطيع مجاراتهم فيه. كل هذا، لا يندرج تحت مظلة الترغيب، بل هو اليوم، يندرج تحت مظلة التثبيط الذي تُعلِن: لن تكون مثل القوم، ولن تلحق برَكبِهم .. فأنت أقلّ دائما!
-6-
رمضان ليس شهر تعبد فقط. ليس نافذة للجنة فقط. ليس قرآنا فقط. ليس اغترافا للحسنات من باب واحد أو اثنين فقط. هو كل هذا. هو دورة حياتيّة متكاملة. هو شهر جهاد بالدرجة اﻷولى. جهاد: للصلاح. للتحول إلى الطّيّب في الفكر والقول العمل والخُلُق. لاكتساب أحدنا عادات أحسن. لاتّقاء شر الإعلام الذي حول عقولنا لاستهلاك مسيء لها. للذين لم يفقهوا الدين كما فقهه السلف الأوائل .. كانوا أكثر حِلما وتسامحا وإنسانية. رمضان: بيئة صالحة تساعد من أراد اتّقاء النار، والأخلاق السيئة، والعادات المُضرّة، والغباء والجهل، والوحدة من دون رفقة الله تعالى.
-7-
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري-رحمه الله-: “الصيام ليس مجرد مسألة إيمان. ليس مجرد مسألة شخصية تخص الفرد وحده، وإنما هو التزام اجتماعي. هذا التفسير للصيام كشعيرة دينية غير مفهوم عند الأديان الأخرى. إن الصيام الإسلامي وحدة تجمع بين التنسّك والسعادة، بل والمتعة كذلك في حالات معينة.. إنه أكثر الوسائل التعليمية طبيعية وقوة، فالصوم يمارس في قصور الملوك وفي أكواخ الفلاحين على السواء.. في بيت الفيلسوف وفي بيت العامل”.
-8-
(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). الله جلّ جلاله، ينتظر عباده أن يسألوه ويطلبوه ليُجيبهم، من دون شكّ في تحقّق هذا. استشعِر هذا في كلّ رَفعةِ يد قبل إفطارك. استشعره في رفعة يدك قبل الفجر، حين يتنزّل الله إلى سمائه الدنيا، بالقرب من الذين يطلبونه. ليس من أحدٍ إلا يرغب بمغفرة الله ورحمته، والله في هذا الشهر، ودائما، يعرضها لمن أراد.
تقبّل الله منّا ومنكم.