Image title

هذه مقاطع من الحوار الذي أجراه “سكوت وايتمر” مع إدوارد غاليانو في عام 2006م:

في الحياة والأدب، ازدرى إدواردو غاليانو الحدود. نُفي من بلاده الأم، الأوروجواي بعد الانقلاب العسكري عام 1973م. عاد إلى مونتيفيدو في عام 1985م، حيث أكمل حياته وكتابته. كتابات غاليانو مزجت الفروق بين التاريخ، الشعر، الذكريات، التحليل السياسي، الثقافة والأنثروبولوجيا. برشاقة حرفية. يستخدم “فقط الكلمات التي تستحق الحضور”، لنقْل المسائل الشخصية والسياسية، بمنظور إنساني – أخلاقي. كتاباته، تحترم خبرات الحياة اليومية، بخلاف وسائل الإعلام العامة، التي “تتلاعب بالوعي، وتخفي حقائق الواقع، وتكبت الخيال الإبداعي، من أجل فرض أنماط الاستهلاك على الحياة”.

بمضاعفة الأصوات التي نادرا ما تُسمع، دحض غاليانو الأكاذيب الرسمية التي تُمرّر عبر التاريخ. أعمال غاليانو، تجسّد العدالة الاجتماعية، ببلاغة أدبية.

– يحلّل كتابك “الأوردة المفتوحة لأمريكا اللاتينية” (1971م) الاستغلال البشع لموارد أمريكا اللاتينية من قِبل قِوى الولايات المتحدة والأوربية. نُشر هذا الكتاب في بداية فترة مضطربة خاصة في تاريخ أمريكا اللاتينية. كيف كانت حياتك في ذلك الوقت؟

كنت أعمل صحفيا. لكن دائما في وظائف حُرة. عملت في النشرات الأسبوعية، والمغامرات المجنونة في الصحافة المستقلة. عشت حياتي بصعوبة. كتبت أشياء أخرى، حرّرت كتبا عن الحياة الجنسية للنحل، أو شيء من هذا القبيل. عملت أيضا في قسم النشر في جامعة منتيفيديو. وفي الليل، كنت أعود إلى البيت كي أعمل على الكتاب. أخذ مني الكتاب أربع سنوات من البحث وتجميع المعلومات، وتسعين ليلة لأكتب الكتاب.

– هل كنت تنام؟

أتوقّع أنني لم أكن أفعل. أتذكر الآن، كنت أشرب أنهارا من القهوة. لاحقا، أصبت بحساسية تجاه القهوة، لكن من حسن الحظ أنني تغلبت عليها، والآن أنا شارب جيد للقهوة. أحبها.

– نُفيت جبريا إلى الأرجنتين، حينها حررت مجلة “أزمة”.

سجنت في الأوروغواي، في بداية عام 1973م، لمدة قصيرة، حينها، قررت أن حياة السجن ليست صحّية، لهذا ذهبت إلى بوينوس آرييس. المجلة كانت خبرة جميلة. أسّسناها مع مجموعة صغيرة من الأصدقاء، في محاولة لفتح مجال جديد للحديث عن الثقافة.

– هل أكملت نشرها حين بدأ النظام العسكري بالرقابة؟

فقط لمدة شهرين أو ثلاثة، وبعدها، كان الاستمرار مستحيلا. كنا مجبرين على الاختيار بين الصمت أو المذلّة. كنا نستطيع الاستمرار، إن كنّا التزمنا الكذب، أو الصمت. قررنا الإغلاق بالكامل، لا أن نتظاهر بالحرية، لأن هذا قد يعطي النظام العسكري، حجّة القول “انظروا، لدينا حرية التعبير هنا!”.

العديد من أعضاء المجلة قُتلوا أو سجنوا أو اختفوا أو نفوا، بهذا، كان قرارا جيدا أن نبتعد ونتخلى عن المجلة. تركنا خلفنا ذكرى مجلة ثقافية استثنائية. لقد أظهرنا أنه كان من الممكن أن نمتلك مفهوما مختلفا عن الثقافة. ليس ثقافة مصنوعة من محترفين، ليستهلكها غير المحترفين، كالعمال أو الأشخاص المجهولون. بدلا من هذا، كنا نحاول أن نسمع أصواتهم. ليس فقط، الحديث عن الواقع، بل السؤال الواقع: “ماذا كنت ستقول لي؟”. هذه المحادثة مع الواقع، كانت مفتاح نجاحنا.

لهذا السبب، كان أول مراسيم النظام العسكري، منع نشر “الآراء غير المختصة”. كنا نحاول إظهار أن أفضل الأصوات تأتي من الأفواه غير المتخصصة.

في منتصف 1976م، كنت مجبرا للسفر من الأرجنتين، لأنه كان من المفترض أن أكون ضمن قائمة فرقة الموت لأُقتل. الكثير من أصدقائي قتلوا، وأن تكون ميتا، هو أمر ممل، لهذا، اخترت أسبانيا كمنفى.

– بدأت كتابة “ذاكرة ثلاثية النار” في أسبانيا، ملحمة منسوجة، تغطي التاريخ الأمريكي والثقافي لأكثر من خمسة دول. ما الذي شجعك على القيام بهذا المشروع الهائل؟

أخافني هذا المشروع في البداية. لقد كانت أول مرة يُحكى فيها تاريخ أمريكا اللاتينية بهذه الطريقة. بعدها، صديقي المقرب، الشاعر الأرجنتيني “جوان جيلمان”، أخبرني: “لماذا لا تشمل جميع أمريكا، ليس فقط الجنوبية والوسطى؟ نحن نتشارك جميعا أصولا مشتركة، والكثير من القصص المترابطة. ومن المحتمل، أننا نمتلك مصيرا مشتركا، يختلف عن المصير الرسمي، الذي بناه الكذبة المحترفون في داخل حرم السلطة، إنه القدر المضاد، الذي يزرعه التاريخ المعاكس”. لقد أغراني بكلماته، وبهذا، غطيت كافة أمريكا، كوسيلة لتعزيز حقيقة أن أمريكا، هي كل أمريكا، من ألاسكا إلى شيلي.

الهجرة، القضية الأكثر حسما في الولايات المتحدة الأمريكية، تتكرر كباعث مهم في كتابك “أفواه الزمن”، كيف نفسر النظرة إلى الهجرة في أمريكا اللاتينية، في مقابل النظرة إليها هنا؟

دائما يعتمد الأمر على وجهة نظرك التي تنطلق منها. قد تُعتبر الهجرة تهديدا، كالتسلل، أو قد يُنظر إليها كحقّ شرعي. باستنثاء بعض السّود في أفريقيا الجنوبية، كلّنا جميعا أتينا من مكان آخر من العالم. كلنا أتينا من أفريقيا، وهذا ليس خبرا جيدا لبعض الجهلة العنصريين. أنا آسف، لكننا جميعا كنّا سُودا في زمن مضى. عليه، فنحن جميعا مهاجرون. هذه طريقتنا في العيش منذ النشأة الأولى. ذات الشيء مع الفراشات، الحيوانات، والطيور. نحن البشر الوحيدون الذين خلقنا حدودا للهجرة، بقولنا: “أنت لا تستطيع عبور هذا الخط. هذه نهاية دولة، وهنا تبدأ دولة أخرى”. أخاف أن وقتنا سيُتذكّر بكونه فترة تعيسة من حياة الإنسان، حين أصبح المال حرا، والبشر لا.

– لماذا نشهد عودة اليسار في أمريكا اللاتينية؟

هذه إرادة شعبية، الإرادة لتغيير الواقع. لقد تعرّضوا للغش لكل تلك السنوات التي أطلق عليها التجربة الليبرالية، والتي لم تكن كذلك إطلاقا. إنها فقط ليبرالية المال. أيضا، لن يكون من السهل الخروج منها، لأننا أصبحنا سجناء ما أسمّيه “ثقافة العجز”. من العسير جدا بناء ديموقراطية في أمريكا اللاتينية، بعد سنوات طويلة من الإرهاب العسكري، وفي عالم غير ديموقراطي سيستخدم حق الفيتو نحو أي محاولة لتغيير شيءٍ ما. سيأتي إليك الخبراء، ليس الجنود، الآن الخبراء. بعض الأحيان، الخبراء أكثر خطرا من الجنود. إنهم يقولون: “إنك لا تستطيع. السوق منزعج. السوق قد يكون غاضبا”. إنه كما لو كان السوق إلها مجهولا، لكنه نشط وقاسٍ، يعاقبنا لأننا نحاول ارتكاب خطيئة كبرى بمحاولة تغيير الواقع.

فقط انظر إلى إيفو موراليس، رئيس بوليفيا. كانت بوليفيا الدولة الأكثر غنى في الأمريكتين في بداية فترة الاحتلال. لقد كانوا مُلاّك الفضة، الذي جعل إثراء أوروبا ممكنا. بوليفيا اليوم، أفقر دولة في أمريكا الجنوبية. غناها، كان سبب هيمنتها. موراليس اليوم يحاول كسر هذا التقليد المُخزي والمعيب للعمل من أجل رخاء الآخرين. حين أمّم النفط والغاز، كانت فضيحة في جميع أنحاء العالم. “كيف استطاع؟ هذا فظيع!”، لماذا فظيع؟ لأن مداواة الكرامة، خطيئة كبرى. لكنه اقترف خطيئة كبرى أخرى: إنه يفعل ما قد وعد أنه سيفعله.

حين كانت أمريكا اللاتينية تعاني بشدّة من الطلاق بين الكلمات والحقائق. حين تقول نعم، فأنت تفعل لا. وحين تقول أكثر أو أقل، فأنت تفعل أقل أو أكثر. فإذاً، الحقائق والكلمات لا تواجه بعضها البعض أبدا. حين تتعدّيان بعضها البعض، عبر حادثة عشوائية، فإنها لا تقول “مرحبا، كيف حالك؟” لأنهما لم يتقابلا من قبل. لقد تدربنا على الكذب. لقد تدربنا على القبول بالكذب، كوسيلة حياة.

– لقد قلت “الواقع ليس القدر، إنه تحدي. نحن لسنا محكومون بقبوله كما هو عليه”. كيف يمكننا تجنب الوقوع في السخرية، حينما يبدو التغيير مستحيلا؟

بالإبقاء على حياة ذاكرة الكرامة. إنها الطريقة الوحيدة. بالإخبار والتكرار بأننا لم نولد السنة الماضية. لقد ولدنا من تراث طويل من الخيانات، لكننا ولدنا من تراث طويل من الكرامة.

هنا، في شيكاجو، مثلا، من المهم استحضار ذاكرة الأول من مايو. المرة الأولى التي أتيت فيها إلى هنا، منذ سنوات مضت. لقد كنت مذهولا بأنّ الكثير ممن واجهتهم، كانوا لا يعلمون بأن عيد العمال العالمي، العيد والمأساة، والذي كان سببه الشهداء الذين دفعوا بحياتهم في الهايماركت في نهاية القرن التاسع عشر، انطلق من شيكاجو.

وشيكاجو محت هذه الذكرى المهمة بالنسبة للعالم أجمع. في الحاضر، أصبحت أكثر أهمية من ذي قبل. لأن كل أول يوم من شهر مايو، جموع وجموع من البشر، بلغات مختلفة، ثقافات مختلفة، قارات مختلفة، كلهم، يحتفلون بالحق في التنظيم.

في هذه الأيام، أكثر الشركات أهمية في العالم، مثل ولمارت، تمنع الاتحادات. إنهم يمحون تراثا لقرنين من معارك الطبقات العاملة. من المهم لشيكاجو، وللعالم، تذكر الذكرى. ليس زيارتها، كما يزور أحدنا متحفا، بل للارتواء من مائها العذب، من أجل عطشك للعدالة .. للجمال. إنها طريقة لمعرفة أنّ الغد ليس مجرد اسم آخر لليوم، لأن الأمس يخبرك بأن الوقت يمضي.

 

 

                                                                                                                                            النص الأصلي

http://inthesetimes.com/article/2699