Image title



قضية رقم 5 لسنة 8 قضائية المحكمة الدستورية العليا “دستورية”

منطوق الحكم الدستوري:

حكمت المحكمة بعدم دستورية المادة 18 مكررا ثالثا – المضافة بالقانون رقم 100 سنة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية – إلى المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية ، وذلك فيما نصت عليه وتضمنته من :-
أولا : إلزامها المطلق بتهيئة مسكن مناسب لصغاره من مطلقته وحاضنتهم ولو كان لهم مال حاضر يكفى لسكناهم ، أو كان لحاضنتهم مسكن تقيم فيه ، مؤجرا كان أم غير مؤجر •
ثانيا : تقييدها حق المطلق – إذا كان مسكن الزوجية مؤجراً – بأن يكون إعداده مسكنا مناسبا لصغاره من مطلقته وحاضنتهم ، واقعا خلال فتره زمنيه لايتعداها ، نهايتها عدة مطلقته•

تعليق هام  من الكاتب لتعم الفائدة  :

وقد أرست محكمة النقض المبدأ التالي :-

أن أثر الحكم بعدم دستورية نص هو عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم حتى على الوقائع السابقة على صدور الحكم بعدم الدستورية بحيث يعتبر النص المقضي بعدم دستوريته عدماً. كأن لم يكن

(الطعن رقم 1006 لسنة 72 ق – جلسة 24/3/2003) (إيجارات)

فالقاعدة:

          أن النص في المادتين (29، 49) من القانون 48 لسنة 1979 بإصدار قانون المحكمة الدستورية العليا – يدل على أن مهمة المحكمة الدستورية مقصورة في مقام مراقبة الدستورية على نصوص القوانين واللوائح، ولا تتعداها إلى مراقبة دستورية المبادئ القضائية والاجتهادات القانونية، وأن أثر الحكم بعدم دستورية نص هو عدم جواز تطبيقه من اليوم التالي لنشر الحكم حتى على الوقائع السابقة على صدور الحكم بعدم الدستورية بحيث يعتبر النص المقضي بعدم دستوريته عدماً.. كأن لم يكن، ولكن لا تجاوز آثار الحكم بعدم الدستورية هذا الحد فلا يستخلص من منطوقه أو أسبابه قاعدة قانونية جديدة أو نصاً بديلاً لأن بديل النص المقضي بعدم دستوريته هو مجموعة القواعد القانونية السارية على موضوع النزاع على التفصيل الوارد في نصوص القانون المدني المبينة لمصادر القاعدة القانونية وعلى سبيل الحصر في مادته الأولى، والقواعد التي تحكم تنازعها من حيث الزمان في المواد التالية.

باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا

بالجلسة العلنية المنعقدة فى يوم السبت الموافق 6 يناير سنة 1996 الموافق 15 شعبان سنة 1416 ه
برئاسة السيد المستشار الدكتور عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة
وحضور السادة المستشارين : الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين وفاروق عبد الرحيم غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتورعبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين ومحمد عبد القادر عبد الله أعضاء
وحضور السيد المستشار نجيب جمال الدين علما المفوض
وحضور السيد حمدى أنور صابر أمين السر
أصدرت الحكم الآتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 5 لسنة 8 قضائية “دستورية ” •
المقامة من
السيد / سعيد عبد الحميد حسنين
ضد
1 – السيد / رئيس الوزراء
– السيد / رئيس مجلس الشعب
3 – السيدة / ميرفت محمود لطفى فرغلى
الإجراءات
بتاريخ الثامن من مارس سنة 1986 أودع المدعى صحيفة هذه الدعوى قلم كتاب المحكمة، طالبا الحكم بعدم دستورية المادة 18 مكررا ( ثالثا ) من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 الخاص ببعض أحكام الأحوال الشخصية ، المعدل بالقانون رقم 100 ة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية •
قدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة دفعت فيها ( أصليا ) بعدم قبول الدعوى ، كما طلبت ( احتياطيا ) رفضها
وبعد تحضير الدعوى أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها •
ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة ، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها بجلسة اليوم •
المحكمة
بعد الاطلاع على الأوراق والمداولة •

حيث إن الوقائع – على مايبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق – تتحصل فى أن المدعى عليها الثالثة ، كانت قد أقامت الدعوى رقم 57 لسنة 1985 مدنى كلى مساكن الإسكندرية ضد المدعى ، بطلب تمكينها وابنته منها – المحضونة لها – ” نجلاء ” من مسكن الزوجية المبين بالأوراق • وبجلسة 15/10/1985 – المحددة لنظر تلك الدعوى – دفع المدعى بعدم دستورية المادة 18 مكرراً ثالثا من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 ببعض أحكام الأحوال الشخصية المضافة بالقانون رقم 100 لسنة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية 0 وبجلسة 10/12/1985 صرحت محكمة الموضوع للمدعى – بعد تقديرها لجدية دفعه – بإقامة الدعوى الدستورية ، فرفعها • وحيث إن المدعى ينعى على المادة 18 مكرراً ثالثاً من المرسوم بقانون رقم 25 لسنة 1929 المعدل بالقانون رقم 100 لسنة 1985 – المشار إليهما – مخالفتها للمادتين 2 ، 34 من الدستور ، تأسيسا على أن الإسلام – وفقا لنص المادة الثانية من الدستور – هو دين الدولة، وأن الشريعة الإسلامية – فى مبادئها – هى المصدر الرئيسى للتشريع ، وأن الطلاق – وهو مقرر للزوج بنص شرعى – لايجوز تقييده بما يمس أصل الحق فيه ، ذلك أن الحق فى الطلاق مكفول لكل زوج حملاً على أحوال المسلمين بافتراض صلاحهم وتقواهم • وهم لايمارسون هذا الحق انحرافا، أو التواء، أو إضراراً 0 بيد أن النص المطعون فيه ، صاغ القواعد التى قررها ، ممالأة منه لفئة لاتعنيها إلا مصالحها الضيقة التى لايحميها الشرع ، مُحَمَّلاً من يباشرون ذلك الحق – وبقصد تقييده – بأعباء مالية ونفسية تدفعهم إلى العدول عنه، ولو قام موجبه ، حال أن الطلاق أمر عارض على الحياة الزوجية ، ولايلجأ الزوج إليه إلا إذا صار استمرارها والتوفيق بين الزوجين – رأبا لصدعها – مستحيلاً أو متعذراً ، بما مؤداه أن النص المطعون فيه لايبلور إلا تياراً دخيلاً يتوخى هدم الحقوق لا إعمالها ، توهما لخصومة بين طرفين ، وإهدارا لقوامة الرجل على المرأة ؛ وإنفاذا لمساواة مغلوطة بينهما ؛ وانحيازاً لقيم مستوردة بتغليبها على حقائق الدين ، وتهوينا لاستقرار الأسر داخل مجتمعها بقصد إضعافها ، وتعقيدا لأزمة طاحنة فى الإسكان ، بدلا من الحد منها تخفيفا لوطأتها ، بعد أن أستعر لهيبها ، ونشأ عنها نوع من الجرائم لم يكن مألوفا من قبل ، وليس إلزام المطلق بأن يوفر لصغاره من مطلقته سكنا مناسبا، إلا تكليفا بمستحيل فى ظل أزمة الإسكان هذه ، التى تحول بضغوطها – التى عَمَّقها النص المطعون فيه – دون مباشرة الرجل للحق فى الطلاق ليغدو وهماً 0 يؤيد ذلك أن حمل المطلق على التخلى عن مسكن الزوجية ، بعد أن أعده مستنفدا كل ما ادخره ؛ ناهيك عن الديون التى لازال يرزح تحتها ، يعنى أن يصبح هائما شريدا • وكان من المفترض – وقد التزم شرعا بالإنفاق على صغاره – أن تكون نفقتهم مبلغاً من المال 0 غير أن النص المطعون فيه ، استعاض عن تمليكها بالتمكين منها ، مخالفا بذلك ماكان عليه العمل من قبل ، متجاهلا حدة أزمة الإسكان ، وهو ماقام الدليل عليه من قصره مجال تطبيق الأحكام التى أقرها، على حل رابطة الزوجية بالطلاق دون غيره من فرق النكاح، فكان عقابا باهظا واقعا على المطلق ، محملاً إياه بأعباء ينوء بها ، متمحضا إضراراً منهيا عنه شرعا ً، لقوله تعالى [ لاتضار والدة بولدها ، ولامولود له بولده ] ،وهو مايعنى أن الولد لايجوز أن يكون سببا لإلحاق الضرر بأبيه ، وقد كان هو سببا لوجوده ، ليكون استقلال الصغار من دون أبيهم بمسكن الزوجية ، إثما وبغيا • وفضلا عما تقدم ، فقد أخل النص المطعون فيه بحرمة الملكية ، ذلك أن صغار المطلق يستقلون من دون أبيهم بسكناه ؛ ولو كانت عينا يملكها ، ليحرم من الانتفاع بها ، وإلى أن يوفر لصغاره وحاضنتهم مسكنا بديلا عنها ، فى الآجال التى ضربها المشرع

• وحيث إن المادة 18 مكرراً ثالثاً – المطعون عليها – تنص على مايأتى : [ على الزوج المطلق أن يهيئ لصغاره من مطلقته ولحاضنتهم المسكن المستقل المناسب ، فإذا لم يفعل خلال فترة العدة ، استمروا فى شغل مسكن الزوجية دون المطلق مدة الحضانة • وإذا كان مسكن الزوجية غير مؤجر ، كان من حق الزوج المطلق ، أن يستقل به إذا هيأ لهم المسكن المستقل المناسب بعد انقضاء مدة العدة • ويخير القاضى الحاضنة بين الاستقلال بمسكن الزوجية ، وبين أن يقرر لها أجر مسكن مناسب للمحضونين ، ولها • فإذا انتهت مدة الحضانة ، فللمطلق أن يعود للمسكن مع أولاده ، إذا كان من حقه الاحتفاظ به قانونا • وللنيابة أن تصدر قراراً فيما يثور من منازعات بشأن حيازة مسكن الزوجية المشار إليه ، حتى تفصل المحكمة فيها ] •

وحيث إن المصلحة الشخصية المباشرة – وهى شرط لقبول الدعوى الدستورية – مناطها أن يكون ثمة ارتباط بينها وبين المصلحة القائمة فى الدعوى الموضوعية ، وذلك بأن يكون الحكم الصادر فى المسائل الدستورية لازما للفصل فى الطلبات الموضوعية المرتبطة بها، والمطروحة على محكمة الموضوع • متى كان ذلك ؛ وكانت الفقرتان الأولى والثانية من هذا النص، تكفلان لصغار المطلق وحاضنتهم ،الاستقلال بمسكن الزوجية في الآجال والأحوال المبينة بهما ؛ وكانت فقرتها الثالثة تقرر التزاما تخييريا يكون فيه المحل متعددا ، ومن ثم تتضامن هذه المحال فيما بينها ، لتبرأ ذمة المدين بالوفاء بأيها – بافتراض استيفاء كل منها للشروط التى تطلبها القانون فيه – سواء أكان الخيار للمدين – وهذا هو الأصل عملا بنص المادة 572 القانون المدنى – أم كان الخيار للدائن بناء على اتفاق فيما بين العاقدين ، أو إنفاذا لنص فى القانون ، مثلما هو مقرر بالفقرة الثالثة من النص المطعون فيه ، التى تخول الحاضنة – وبافتراض نيابتها عن المحضونين – الخيار بين الاستقلال بمسكن الزوجية ، وبين أن يقدر القاضى أجر مسكن مناسب للمحضونين ولها ، وهو مايفيد إمكان رفضها الحصول على هذا الأجر ، وطلبها مسكن الزوجية، لتقوم المصلحة الشخصية المباشرة للمدعى فى الطعن على المادة 18 مكرراً ثالثا – المشار إليها – بفقراتها الثلاث دون غيرها • ذلك أن فقرتها الرابعة ، تخول المطلق أن يعود بعد انتهاء حضانة صغاره إلى مسكن الزوجية إذا كان من حقه ابتداء الاحتفاظ به قانونا ، وهو مايتمحض لمصلحتة • كذلك فإن فقرتها الأخيرة لاتفصل فى موضوع الحقوق المدعى بها ، ولكن فى منازعات الحيازة التى يكون مسكن الزوجية مدارها ، ليكون قرار النيابة فى شأنها وقتيا ، فاصلا فيما يستبين لها من أوضاع الحيازة على ضوء ظاهر الأمر فيها ، وهو ماتراجعها فيه المحكمة ذات الاختصاص للفصل فى ثبوت الحيازة لأحد الطرفين المتنازعين ، دون إخلال بأصل الحق المردد بينهما •
وحيث إن البين من مضبطة الجلسة الثامنة والتسعين لمجلس الشعب ، المعقودة فى أول يوليو سنة 1985 ، أن آراء عديدة أبداها رئيس المجلس وأعضاؤه فى شأن نص المادة 18 مكرراً ثالثا ، سواء بتأييد مشروعها ، أو الاعتراض على بعض جوانبه لتقييده • وقد رفض المجلس بوجه خاص اقتراحين قدما إليه : أولهما : ألا يستقل صغار المطلق وحاضنتهم بمسكن الزوجية من دونه إذا كان لها مسكن تقيم فيه ، أو كان للصغار مال يكفيهم للإنفاق منه لتدبير مسكن يضمهم مع حاضنتهم • وثانيهما : أن يختص كل من المطلق وصغاره بجزء مستقل من مسكن الزوجية ، توفيقاً بين مصالحهم ، ودفعا لتعارضها • وجاء بالمذكرة الإيضاحية للنص المطعون فيه ، أن وقوع الطلاق يثير فيما بين الزوجين نزاعا حول مسكن الزوجية ، وهل يخلص لصغار المطلق وحاضنتهم ، أم لأبيهم من دونهم باعتباره المتعاقد عليه ، وأن ماقرره بعض الفقهاء من أن على أبيهم سكناهم جميعا إذا لم يكن لمن لها إمساكهم ، مسكن ، يعنى أن لحاضنتهم أن تستقل معهم – بعد الطلاق – بمسكن الزوجية المؤجر لأبيهم المطلق ، إلا إذا هيأ لهم مسكنا مناسبا يقيمون فيه ، ليعود إلى المطلق بعد انتهاء حضانتها ، أوبعد زواجها، إذا كان من حقه ابتداء الاحتفاظ به قانونا

• وحيث إن الرقابة على الشرعية الدستورية – وعلى ماجرى به قضاء المحكمة الدستورية العليا – تتناول – بين ماتشتمل عليه – الحقوق التى كفلها الدستور ، وأهدرها النص المطعون فيه ضمنا ؛ سواء كان الإخلال بها مقصوداً ابتداءً ، أم كان قد وقع عرضاً

• وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا مطرد كذلك ، على أن مانص عليه الدستور فى مادته الثانية – بعد تعديلها فى سنة 1980 – من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع ، إنما يتمحض عن قيد يجب على السلطة التشريعية أن تتحراه وتنزل عليه فى تشريعاتها الصادرة بعد هذا التعديل – ومن بينها أحكام القانون رقم 100 لسنة 1985 بتعديل بعض أحكام قوانين الأحوال الشخصية – فلا يجوز لنص تشريعى أن يناقض الأحكام الشرعية القطعية فى ثبوتها ودلالتها ، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هى التى يكون الاجتهاد فيها ممتنعا ، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادؤها الكلية ، وأصولها الثابتة التى لاتحتمل تأويلاً أو تبديلاً • ومن غير المتصور بالتالى أن يتغير مفهومها تبعاً لتغير الزمان والمكان ، إذ هى عصية على التعديل ، ولايجوز الخروج عليها ، أو الالتواء بها عن معناها • وتنصب ولاية المحكمة الدستورية العليا فى شأنها، على مراقبة التقيد بها ، وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها • ذلك أن المادة الثانية من الدستور ، تقدم على هذه القواعد ، أحكام الشريعة الإسلامية فى أصولها ومبادئها الكلية ، إذ هى إطارها العام ، وركائزها الأصيلة التى تفرض متطلباتها دوماً بما يحول دون إقرار أية قاعدة قانونية على خلافها ؛ وإلا اعتبر ذلك تشهيا وإنكاراً لما علم من الدين بالضرورة • ولاكذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معا ، ذلك أن دائرة الاجتهاد تنحصر فيها ،ولاتمتد لسواها • وهى بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان ، لضمان مرونتها وحيوتها ، ولمواجهة النوازل على اختلافها، تنظيما لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة شرعاً ، ولايعطل بالتالى حركتهم فى الحياة ، على أن يكون الاجتهاد دوماً واقعاً في إطار الأصول الكلية للشريعة بمالايجاوزها ، ملتزما ضوابطها الثابتة ، متحريا مناهج الاستدلال على الأحكام العملية ، والقواعد الضابطة لفروعها، كافلاً صون المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ على الدين والنفس والعقل والعرض والمال •

وحيث إن البين من استقراء الأحكام التى بسطها الفقهاء فى شأن النفقة – سواء كان سببها عائدا إلى علائق الزوجية ، أم إلى القرابة فى ذاتها – وأيا كان نوعها – بما فى ذلك مايقوم من صورها بين الأصول والفروع ، أنهم اختلفوا فيما بينهم فى عديد من مواضعها ، إما لخفاء النصوص المتعلقة بها من جهة اتساعها وتعدد تأويلاتها ؛ وإما لتباين طرائقهم فى استنباط الأحكام العملية – فى المسائل الفرعية والجزئية التى يدور الاجتهاد حولها – من النصوص وأدلتها ، والترجيح بينها عند تعارضها ، اختياراً لأصحها وأقواها وأولاها ، وهو مايفيد أن النفقة بمختلف صورها ؛ وفى مجمل أحكامها – وفيما خلا مبادئها الكلية – لاينتظمها نص قطعى يكون فاصلاً فى مسائلها •

وحيث إن النفقة شرعاً هى الإدرار على الشئ بما فيه بقاؤه ، وهى فى أصل اشتقاقها تعد هلاكا لمال من جهة المنفق ، ورواجا لحال من جهة المنفق عليه • ويشمل مصطلحها كل صورها من إنفاق على إنسان أو حيوان أو طير أو زرع ، لأن فيها معنى إخراج مال لايفائهم حاجتهم ، وصونها • ولاينال من ذلك قول أهل اللغة أيضا ، بأنها ماينفقه الإنسان على عياله ونحوهم ، فإنه بيان لحقيقة مدلولها ، وعلى تقدير أن مسكن الصغير من مشمولاتها • وإذ كان الأصل أن يقوم الزوج بالإنفاق على زوجته ليوفر لها احتياجاتها ؛ ويُعِينها على التفرغ لواجباتها جزاءً لاحتباسها لمصلحة تعود عليه ؛ وكان من المقرر كذلك أن للزوجة أن تأخذ من مال زوجها – إذا منعها مُؤْنتها – مايكفيها هى وأولادها منه معروفاً ، وبغير إذنه ؛ وكانت علاقة المرء بذوى قرباه – من غير أبنائه – تقوم على مجرد الصلة – ولو لم تكن صلة محرمية – إلا أن الولد ليس إلا زرع أبيه ، بل هو من كسبه وجزؤه ، وبعض منه ، وإليه يكون منتسبا، فلا يلحق بغيره • وهذه الجزئية أو البعضية ، مرجعها إلى الولاد ، وليس ثمة نفع يقابلها ليكون فيها معنى العوض ، ومن ثم كان اختصاص الوالد بالإنفاق على صغاره أصلاً ثابتاً لا جدال فيه ، بحسبان أن قرابتهم منه مفترض وصلها ، محرم قطعها بالإجماع • ولأن نفقتهم من قبيل الصلة ، بل هى من أبوابها ، باعتبار أن الامتناع عنها مع القدره على إيفائها – حال ضعفهم وعجزهم عن تحصيل حوائجهم – مفض إلى تفويتها ، فكان الإنفاق عليهم واجبا ، فلاتسقط نفقتهم بفقر آبائهم ولايتحللون منها • بل عليهم موالاة شئون أبنائهم ،العاجزين عن القيام بما يكفل إحياءهم وصون أنفسهم ، مما يهلكها أو يضيعها • وهم كذلك مسئولون عن تكميل نفقتهم ، إذا كانوا يتكسبون ، ومابرحوا عاجزين عن إتمامها ، فلا يمنعهم الآباء مايستحقون ، إعمالا لقوله تعالى [ وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف] ولقوله عليه الصلاة والسلام [كفى بالمرء إثما أن يضيع من يعول ] ذلك أن نفقتهم تقتضيها الضرورة ، وبقدر مايكون لازما منها لضمان كفايتهم على ضوء مايليق بأمثالهم ، فلاتكون اقتارا ، ولاسرفا زائدا عما اعتاده الناس ، ولاتستطيل بالتالى إلى مايجاوز احتياجاتهم عرفا • بل إن من الفقهاء من استدل على وجوبها على الآباء، من أنهم كانوا فى الجاهلية يقتلون أولادهم خوفا من الإملاق ، وما كانوا ليخافوه لولا أن نفقتهم عليهم ، فنهاهم الله تعالى عن قتلهم • ومن ثم قيل بأمرين : أولهما : أن الإخلال بنفقتهم يكون مستوجبا حبس من قصر فى أدائها ممن التزم بها، باعتبار أن فواتها ضياع لنفس بشرية سواء فى بدنها، أوعقلها، أو عرضها 0 ثانيهما : أنه إذا كان للصغار مال حاضر ، فإن نفقتهم تكون فى أموالهم ولا شأن لأبيهم بها ، فإذا كان مالديهم من مال لايكفيها ؛ أو لم يكن لديهم مال أصلاً ، اختص أبوهم من دونهم بتكملتها ، أو بإيفائها بتمامها ، فلايتحمل غيره بعبئها

• وحيث إن المدعى لاينازع فى أصل الحق فى نفقة صغاره ، ولافى فى شروط استحقاقها ، ولا فى أن نفقتهم غير مقدرة بنفسها ، بل بكفايتها •وإنما تثور دعواه الدستورية حول مشروعية القيود التى فرضها النص المطعون فيه على كل مطلق ، قولا بأن هدفها الحد من الحق فى الطلاق ، وأن إعناتها يتمثل فى إلزامهم إسكان صغارهم من مطلقاتهم ، بدلا عن أجرة المسكن التى كان العمل بها جاريا قبل نفاذ النص المطعون فيه ، بما مؤداه أن ” عينية ” نفقتهم “لامبلغها” ، هى مدار دعواه هذه ، وأن الفصل فى دستورية النص المطعون فيه يتحدد على ضوئها ؛ “ونطاق تطبيقها ” • وحيث إن إنكار حق صغار المطلق فى اقتضاء نفقتهم تمكينا ، مردود أولا : بأن القاضى وإن كان يقدرها فى ظل العمل بأحكام لائحة ترتيب المحاكم الشرعية والإجراءات المتعلقة بها الصادر بها المرسوم بقانون رقم 78 لسنة 1931 [ المادتان 5 ، 6 منها ومذكرتهما الإيضاحية ] مبلغا نقديا يشمل عناصرها جميعا – بما فيها السكنى ، إلا أن من المقرر فى قضاء المحكمة الدستورية العليا ، أن أية قاعدة قانونية – ولو كان العمل قد استقر عليها أمدا – لاتحمل فى ذاتها مايعصمها عن العدول عنها ؛ وإبدالها بقاعدة جديدة لاتصادم حكماً شرعيا قطعيا – فى وروده ودلالته – وتكون فى مضمونها أرفق بالعباد ، وأحفل بشئونهم، وأكفل لمصالحهم الحقيقية التى تشرع الأحكام لتحقيقها وبما يلائمها ؛ فذلك وحده طريق الحق والعدل ، وهو خير من فساد عريض
• ومن ثم ساغ الاجتهاد فى المسائل الاختلافية التى لايجوز أن تكون أحكامها جامدة بما ينقض كمال الشريعة ومرونتها •
وليس الاجتهاد إلا جهدا عقليا يتوخى استنباط الأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية، وهو بذلك لايجوز أن يكون تقليدا محضا للأولين ، أو افتراء على الله كذبا بالتحليل أو التحريم فى غير موضعيهما ، أو عزوفا عن النزول على أحوال الناس والصالح من أعرافهم •
وإعمال حكم العقل فيما لانص فيه ، توصلا لتقرير قواعد عملية يقتضيها عدل الله ورحمته بين عباده ، مرده أن هذه القواعد تسعها الشريعة الإسلامية ، إذ هى غير منغلقة على نفسها ، ولاتضفى قدسية على أقوال أحد من الفقهاء فى شأن من شئونها ، ولاتحول دون مراجعتها، وتقييمها، وإبدالها بغيرها • فالآراء الاجتهادية ليس لها – فى ذاتها – قوة ملزمة متعدية لغير القائلين بها • ولايجوز بالتالى اعتبارها شرعا ثابتا متقررا لايجوز أن ينقض ، وإلا كان ذلك نهيا عن التأمل والتبصر فى دين الله تعالى ، وإنكاراً لحقيقة أن الخطأ محتمل فى كل اجتهاد • بل أن من الصحابة من تردد فى الفتياتهيباً 0 ومن ثم صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره • وربما كان أضعف الآراء سنداً ، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة ، ولو كان مخالفا لأقوال استقر عليها العمل زمنا • ولئن جاز القول بأن الاجتهاد فى الأحكام الظنية ، وربطها بمصالح الناس عن طريق الأدلة الشرعية -النقلية منها والعقلية – حق لأهل الاجتهاد، فأولى أن يكون هذا الحق ثابتاً لولى الأمر يستعين عليه – فى كل مسألة بخصوصها وبما يناسبها – بأهل النظر فى الشئون العامة ، إخمادا للثائرة وبما يرفع التنازع والتناحر ويبطل الخصومة،على أن يكون مفهوما أن اجتهادات السابقين ، لايجوز أن تكون مصدرا نهائيا أو مرجعا وحيدا لاستمداد الأحكام العملية منها ؛ بل يجوز لولى الأمر أن يشرع على خلافها ، وأن ينظم شئون العباد فى بيئة بذاتها تستقل بأوضاعها وظروفها الخاصة ، بما يرد الأمر المتنازع عليه إلى الله ورسوله ، مستلهما فى ذلك حقيقة أن المصالح المعتبرة ، هى التى تكون مناسبة لمقاصد الشريعة متلاقية معها ، وهى بعد مصالح لاتتناهى جزئياتها ، أو تنحصر تطبيقاتها ، ولكنها تتحدد – مضمونا ونطاقا – على ضوء أوضاعها المتغيرة 0 وليس ذلك إلا إعمالا للمرونة التى تسعها الشريعة الإسلامية فى أحكامها الفرعية والعملية المستجيبة بطبيعتها للتطور ، والتى ينافيها أن يتقيد ولى الأمر فى شأنها بآراء بذاتها لايريم عنها ، أو أن يقعد باجتهاده بصددها ، عند لحظة زمنية معينة ، تكون المصالح المعتبرة شرعا قد جاوزتها • وتلك هى الشريعة الإسلامية فى أصولها ومنابتها ، متطورة بالضرورة ، نابذة الجمود لايتقيد الاجتهاد فيها – وفيما لانص عليه – بغير ضوابطها الكلية ، وبما لايعطل مقاصدها • ومردود ثانيا : بأن كلمة النفقة عند إطلاقها ، تفيد انصرافها إلى مشتملاتها مما تقوم بها من طعام وكسوة وسكنى ، أو هى – على حد قول الحنابلة – مؤنة الشخص خبزاً وأدماً وكسوة وسكناً وتوابعها ، باعتبارها من الحوائج الأصيلة للمنفق عليه 0 والأصل فيها أن تكون عينا ، فلايصار حق الصغار بشأنها إلى مايقابلها نقدا – باعتباره عوضها أو بدلها – إلا إذا كان استيفاء أصلها متعذرا 0 وليس معروفا أن يكون إنفاق الوالد على صغاره تمليكا معلوم القدر والصفة ، بل يتعين أن يكون تمكينا يُعينهم على أمر حوائجهم ، ليوفيها دون زيادة أو نقصان 0 وهذا الأصل قائم على الأخص فى مجال العلائق الزوجية لقوله عليه الصلاة والسلام[ أطعموهن مما تأكلون وأكسوهن مما تكتسون] ، وهو مقرر كذلك فى الزكاة لوقوعها فى عين أموالها لقوله عزوجل [ خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ] •
واستصحابا لهذا الأصل لاتخرج المطلقة من مسكنها طوال عدتها ، سواء كان طلاقها من زوجها رجعيا أم بائنا ؛ ذلك أن طلاقها رجعيا ، يعنى أن علاقة الزوجية لاتزال قائمة ، وأن بقاءها فى بيته قد يُغريه بإرجاعها إليه ، استئنافا لحياتهما ، فإن كان طلاقها منه بائنا ، فإن مكثها فى منزل الزوجية يكون استبراء لرحمها • لا استثناء من ذلك فى الحالتين ، إلا أن تأتى عملا فاحشا • وقد أحال الله تعالى المؤمنين فى كفاراتهم إلى عاداتهم قائلا [ فإطعام عشرة مساكين من أوسط ماتطعمون أهليكم أو كسوتهم ] •
متى كان ذلك ، وكان الحق هو الحسن شرعاً ، والباطل هو القبيح شرعاً ، فإن تقرير حق الصغار فى نفقتهم من خلال إبدال مبلغها بعينيتها ، لايكون التواء عن الشرع ، ولا ضلالا يقابل الحق ويُضَاده • ومردود ثالثا : بأن الصحابة والتابعين والأئمة المجتهدين ، كثيرا ماقرروا أحكاما متوخين بها مطلق مصالح العباد جلبا لنفعهم ، أو دفعا لضرهم ، أو رفعا للحرج عنهم ، باعتبار أن مصالحهم هذه لاتنحصر جزئياتها ، وأنها تتطور على ضوء أوضاع مجتمعاتهم • وليس ثمة دليل شرعى على اعتبارها أو إلغائها • وإذ لم يعد للنفوس – من ذاتها – زاجر يردعها عن إنكار حق الصغار فى نفقاتهم أو المطل فى أدائها – فيما إذا كان قدرها محدداً مبلغا من النقود – مما قد يحمل حاضنتهم على التردد بهم على ذويها يقبلونهم على مضض ، أو يصدونهم ، يضيقون بهم ذرعا ، أو يعرضون عنهم ، بما يهدد حياتهم وعقولهم وأعراضهم ، فقد بات حقا وواجبا، أن يتدخل المشرع لرد ماقدره ظلما بينا ، وأن يعيد تنظيم الحقوق بين أطرافها مبينا طرق اقتضائها ، مستلهما أن الأصل فى الضرر أن يزال فلا يتفاقم ، وأن الضرر لايكون قديما ، فلايتقادم ، وأن القرابة القريبة ينبغى وصلها ، والقبول بأهون الشرين فى مجالها توقيا لأعظمهما • ومن ثم قدر المشرع – بالنص المطعون فيه – أن ينقل حق هؤلاء الصغار من نفقة يفرضها القاضى مبلغا من النقود ، إلى عين محقق وجودها ، هى تلك التى كانوا يشغلونها مع أبويهم قبل طلاق أمهم ، ليظل حقهم متصلا بها لايفارقونها، إلا إذا بوأهم أبوهم مسكنا مناسباً بديلا عنها • ولا منافاة فى ذلك للشريعة الإسلامية سواء فى مبادئها الكلية أومقاصدها النهائية ، بل هو أكفل لدعم التراحم والتواصل بين أفراد الأسرة الواحدة ، بما يرعى جوهر علاقتهم بعضهم ببعض ، فلا يقوض بنيانها • ومردود رابعا: بأن ماقرره المدعى من أن المطلق يتعذر عليه أن يوفر سكنا لصغاره وحاضنتهم إزاء حدة أزمة الإسكان ،وعمق تداعياتها، يعنى أن تقدير نفقتهم مبلغا من النقود مشتملا على سكناهم ، لن يكون كافيا لتهيئتها ، إذ لو كان بوسعهم استيفاء حقهم من السكنى من خلال أجر مسكن يحصلون عليه من أبيهم ، لكان الاعتراض على عينية نفقتهم لغواً

وحيث إن عينية النفقة على ماتقدم ، لاتفيد لزوما انتفاء القيود اللازمة لضبطها ، ولاتحول بالتالى دون مباشرة المحكمة الدستورية العليا لرقابتها القضائية فى شأن مضمون الحقوق التى خولها النص المطعون فيه لصغار المطلق وحاضنتهم ،للفصل فى اتفاقها مع الدستور ، أو خروجها عليه

0

نشرت بتاريخ:

22/09/2017