كانت تعرض علي تساؤلات متكررة حول المدارس بشكلها الحالي والصورة المتكررة في كل مكان في العالم لنظام التعليم، يحفز هذه التساؤلات الشكوى العامة والتي تكاد تكون ظاهرة عالمية من ضعف التعليم وضعف المخرجات، ورؤيتنا للأمثلة الحية “ للمنتج “ النهائي الذي نراه سواء بنهاية التعليم العام أو على نهاية كل مرحلة تبين هذا بجلاء.  

أتذكر جيدا أنني دخلت الجامعة بعد ست سنوات من دراسة اللغة الإنجليزية وأنا لا أعرف أبسط مباديء اللغة الإنجليزية وكنت بلا مبالغة أترجم كلمات مثل is , was etc ، وكل ما اكتسبته من معارف باقية معي إلى الآن من تلك المرحلة العمرية كان بسبب ما تعلمته على هامش المدرسة ومن مصادر معرفية أخرى، وليس للمدرسة الدور التعليمي البارز. هذه هي الحقيقة المؤسفة. ولا أبالغ إن قلت أنني أعرف زملاء قضوا اثنتي عشرة سنة ( الرقم العالمي المميز ) في المدراس وخرجوا وهم لا يقرأون  بشكل سليم! 

يلح علي هذا الموضوع كثيرا هذه الأيام لأنني أرى ابني عبدالله يتوجه للمدرسة كل صباح.. ملامحه حين عاد ذكرتني بملامح ابنة أخي حين عادت بعد يومها الأول من المدرسة. لم أر هذا الذبول الذي يعلو الملامح المعتادة على الانطلاق والتوقد مثل ما رأيتها ذلك اليوم. قد أقول: ملامح الكدح الأولى، صدمة الحياة، قسوة التجربة .. إلخ. وقد يكون في هذا الوصف مبالغة “درامية”، لكنه هذا الانطباع الأول الذي انغرس في ذهني حين رأيتهما ولن أستغرق في هذا أكثر.

وللقفز للفكرة مباشرة ، أعجبني استهلال : Yehudi Meshchaninov في مقالة كتبها عن تاريخ التعليم النظامي ، وقد نقل عبارة لأرسطوا تقول: “ إذا أردت فهم أي شيء فادرس نشأته وكيف تطور”. 


الولاية (الدولة) هي الأب لكل أطفالنا” 

Image title
Horace Mann الأب للتعليم العام في أمريكا


كيف ظهرت فكرة المدارس بشكلها الحالي؟ ومن قرر أن تكون سنوات التعليم العام ١٢ سنة؟ ومن صاحب فكرة فرز الطلاب حسب الأعمار؟ ومن حدد المناهج؟ ولماذا لا يدرس الطالب الفيزياء في الثالث متوسط بدلا من الأول الثانوي أو المستوى التاسع؟ من صاحب فكرة الطابور الصباحي؟ وجرس انتهاء الحصة وبدايتها؟ كيف ارتبطت العروض الرياضية بالمدارس؟ 

المصادر العربية شحيحة جدا للإجابة عن هذه الأسئلة، وأذكر إشارة سريعة في كتاب “صناعة الواقع” لمحمد علي فرح لا تجذب الانتباه. وكتاب محمد علي مهم جدا وقيم بغض النظر عن هذا الموضوع. 

القصة بدأت في أمبراطورية بروسيا  - ليست روسيا - في عهد الملك وليم فيدريك الأول Fredrick William I، حيث كانت الدولة في أوج قوتها وبحاجة لجيش قوي، لكنها كانت تجد صعوبة في تجييش الناس وانضمامهم للجيش، وبعض المصادر* تشير إلى أن الدافع الأساسي كان في هزيمة بروسيا على يد نابليون وبعد التأمل ودراسة الأسباب ظهر لديهم أن الجنود لم يكونوا أصحاب ولاء مطلق للجيش فظهرت فكرة إنشاء “ مصانع “ لتخريج ينظم إليها أبناء الرعية في الأمبراطورية بشكل إلزامي لأجل “ إنتاج طاعة مطلقة للقوة البيروسية العلياء روحيا وذهنيا. فكان النظام التعليمي البيروسي لتعبيد العقل الإنساني لا لتذكيته.” 

وبعد أن كان التعليم يسير في المجتمعات بشكل عفوي وبسيط، يصف أحدهم التحول الذي حصل: “ أصبح الأطفال في هذا النظام لذي أسسه الملك فريدرك مسلوبي الشخصية، وفصلوا عن بعضهم في عمر مبكر، ووضعوا في طوابير تسكت بالترهيب، يكلفون بأعمال رتيبة لأجل تعويدهم على الطاعة المطلقة، ويدّرسون معلومات مفرقة دون أي سياق متماسك. لقد دمر تفكيرهم بشكل متعمد ومنظم” 

تفسير آخر لنشأة المدارس النظامية والتعليم الإلزامي أنها ظهرت “كخط إنتاج” لتخريج أعداد هائلة من العمال لتغطية حاجة المصانع مع ظهور الثورة الصناعية في أوروبا. فلم يكن من طريقة لأخذ “ الأطفال “ من أحضان الآباء والأمهات ومن العمل الزراعي إلا بفرض التعليم الإلزامي وصناعة بيئة تشبه المصنع: “ جدول ثابت، ويوم مقسم بشكل دقيق، ومجموعات منفصلة، وأجراس تدق وأبواب تفتح، وتدريس يعتمد على التلقين والأمر المباشر” . وبناء على هذا يتغير البناء الاجتماعي بشكل كامل وأصبح المجتمع تصدق فيه عبارة هوارس مان  :” الولاية (الدولة) هي الأب”.


وبقليل من التأمل نجد أنه من الصعب تصور أن تسير “ الدولة القومية “ المتمثلة في : مواطنين،وحكومة، وأرض، ولغة؛ دون وجود مواطنين صالحين يعرفون معنى القانون والنظام وأهمية وجود الحكومة ويقفون عند الإشارات ويدفعون الضرائب، ويستصدرون جوازات سفر، وبطاقات هوية دون مدراس نظامية تشكل الخطوة الأولى للتواصل بين الإنسان والحكومة. 

والسعي لانتاج هذا المواطن المهذب   "Disciplined citizen” هو الذي دفع هوارس مان Hoarce Manne   إلى البحث والتنقيب عن نموذج يمكن تطبيقه لانشاء مدارس نظامية عامة، فسافر إلى بريطانيا وأوروبا وألمانيا، لكن ما جذب انتباهه وشعر أنه بحاجة إلى استنساخ كان النظام تعليم في بروسيا. فكانت رسالته بعد ذلك في الحياة هي تعميم هذا التعليم مع تحوير يتوافق مع "العالم الحر". 

كان هوراس مان يدرك تماما كيف نشأ نظام التعليم البروسي وكان يدرك أنه نشأ لصناعة نمط معين من المعرفة والسلوك والإرادة، لكنه رأى أنه بالإمكان الاستفادة منه في نشر التعليم وفي صناعة مواطن مهذب، وفي تهذيب الطفل الذي عجز الحاضن الطبيعي -الأسر-ة في تهذيبه. كان يرى أن أسلوب الفصول الدراسية وتقسيم اليوم، والأجراس، والقيام للمعلم قد يساعد في إخراج “منتج” مناسب للوظيفة والعمل. وهذا لاستنساخ الجريء والذكي نجح في الانتشار في فترة وجيزة بداية من بوسطن حيث بدأ تجربته الأولى، مصحوبا بالدعم القانوني الحكومي حتى أصبح الشكل العام في أمريكا وفي أنحاء العالم. وتزامن مع انتشار التعليم العام حزم - شديد أحيانا- في القضاء على المدراس الخاصة والدينية لجعل التعليم تحت سلطة مركزية مطلقة في بروسيا، وبصورة أقل حدة في أمريكا لأنها أمريكا. وربما أُخذ الأطفال بقوة القوانين من أسرهم للدخول في هذه المدارس. 

والعجيب أن المدارس لم تتلقاها المجتمعات بالقبول في كل حال، بكل كان هناك رفض ومقاومة لأنها اعتبرت أمرا دخيلا يغير تشكلية المجتمع. وما زالت هناك أصوات كثيرة في أمريكا ترفض المدراس النظامية  Anti Schooling باعتبار المدارس مجرد مصانع لتخريج نسخ متشابهة من الناس، وتضع الحدود للتفكير والتعلم. وهذه الفكرة لم تكن غائبة حتى في أمريكا “الحرة” حين يقول ويليم هاريس وكان مسؤولا للتعليم ومؤلفا وفيلسوفا : “ أصبح لدينا تسعة وتسعين في المئة من الطلاب الذين يمشون بحذر وآلية تامة على طرق مرسومة وبطريقة واحدة، وهذا لم يكن بمحض الصدفة بل نتيجة لهذا النظام التعليمي” ، وهو هنا يثني لا يذم!.

وللإنصاف فلا هذا الرجل ولا الذي قبله - هوارس مان - كانوا أشرارا أو أصحاب نوايا سيئة بل أقل ما يقال عنهم أنهم أشخاص مكافحين وعظماء ومخلصين لأفكارهم. والتحيز لايكاد يخفى عند قراءة الكتب والمقالات المضادة للمدارس ونظام التعليم الإلزامي حين تتحدث عن هذين الرجلين وغيرهما. وللأول مقالة طويلة بعنوان: The School City وفيها يصور بوضوح فكرته عن المدرسة كمجتمع مصغر لصناعة “المواطن الصالح”. 

وأتذكر وأنا اقرأ بعض مقالات ودعوات الحركات المناهضة للمدارس في الغرب وفي أمريكا، الأصوات التي كانت تعارض المدارس في العالم الإسلامي مع بداية نشأة الدول العربية، خصوصا في مصر والسعودية فأفهم - ويجب أن يفهم كل أحد- أن المعارضة لم تكن للتعليم بكل كانت لتنميط التعليم وجعله بهذا الشكل. ومن اللطيف أن المدارس نشأت لتكون “ علمانية” مع وضع الدين كمادة ضمن المواد الدراسية، وهذا ما كان معمولا به أثناء نشأة المدارس في بروسيا وكذلك بعد الاستنساخ في أمريكا.


ما البديل؟

تصوير المدارس -الحالية- بأنها مجردة من كل فائدة كما يفعل مناهضوا المدارس في أمريكا هو من المبالغات التي تعود عليها العقل الغربي، لكن في الوقت ذاته من المهم أن ندرك نشأة الأشياء والأفكار التي تقيد حياتنا اليوم. وأثناء كتابة هذه المقالة على فترات متقطعة كان لايفوتني إيقاظ عبدالله كل صباح ليذهب إلى المدرسة مع مقاومته أحيانا ورغبته البقاء في البيت لعلل كثيرة. لا أدري سوف سيكون حماسي لايقاظه كل صباح لو كان أكبر سنا وأكثر إدراكا لما يحصل حوله في عالم مختلف وبيئة مختلف وثقافة مضادة. 

وهذا السبب وغيره كثير من السلبيات التي يعاني منها الآباء والطلاب قد تدفع الإنسان للبحث عن بديل للتعليم العام. وقد عرفت زملاء في أمريكا لم يعرف أبناءهم المدارس إلا في السنوات القليلة الأولى وهم الآن - الأبناء- في الجامعات ولا تقل مؤهلاتهم العلمية عن أي شخص خاض تجربة العيش  “خلف أسوار المدرسة”.

التعليم المنزلي

هذا الفكرة التي لو طرحها أحد أو مارسها لوصف ربما بالتخلف “والجنون” لكنها تزيد في أمريكا بنسبة 5% تقريبا كل سنة. ويختارها غالب الأسر حفاظا على قيم الأبناء والأسرة. ونسبة الذين يتخرجون من الكليات من طلاب “التعليم المنزلي” أكثر من طلاب التعليم العام. وإدارات التعليم توفر منهجا مقترحا وأهدافا معينة يجب على الطالب تحقيقها. وهذه فكرة رائعة لمن لديه الوقت والقدرة والمعرفة ويسعى لتنشئة أبنائه في بيئة طبيعية. 

التعليم عن بعد:

وهو متوفر في بعض الدول ومعتمد تماما مثل التعليم العام ومؤهله معادل للتعليم العام واختباراته دقيقة وفيه أوقات معينة لمقابلة الأستاذ مباشرة. 

والموضوع من ناحية تاريخية يتعلق به أشخاص مؤثرون وفلاسفة وساسة ليس لدي من الوقت وسعة البال ما يأذن بالحديث أو البحث عنهم أكثر، وهو موضوع واسع ومفتوح وما أجمل لو يبحث باحث في نشأة المدارس النظامية في مجتمعاتنا العربية وكيف تعامل الناس والنخب معها. وهو حديث ذو شجون.

التدوينة كتبت على أوقات متفرقة ومتباعدة لكن فضلت أن تنشر كما هي على أن تبقى حبيسة سطح المكتب. 


بعض المصادر وللإستزادة: 

The Prussian-Industrial History of Public Schooling, Yehudi Meshchaninovm - 

The Underground History of American Education, Jhon Taylor Gatto -

وجاتو هذا له عدة كتاب، وهو مناهض بارز للمدارس

 William Torrey Harris ,School city - 

Home School Myth -

How to Break Free of Our 19th-Century Factory-Model Education System -

 JAMES L. MCCONAUGHY, The myth of germane school superiority  -

The Twelve-Year Sentence: The “Historical Origins” of Compulsory Schooling-     

The One World Schoolhouse: Education Reimagined: Salman Khan - 

 

- كتاب بعنوان “ خلف أسوار المدرسة” لعمار سليمان أشار إليه أحد الأصدقاء في تويتر ويبدو أن يؤرخ للمدارس بطريقة مختلفة. لم أتمكن من الحصول عليه 

- مقطع عن تاريخ التعليم - يؤخذ منه ويرد لكنه يبين بعض المفاصل التاريخية المهمة وبعض الأشخاص المؤثرين. 

https://www.youtube.com/watch?v=uexMYBkfCic

- تشومسكي يتحدث عن التعليم العام. وهو يراه مصنعا للطاعة المطلقة ولجيل من المتسالمين مع الواقع. 

https://www.youtube.com/watch?v=JVqMAlgAnlo