من وحي سورة الكهف22(نشر بالمجلة العربية. عدد 488 شهر رمضان 1438 هـ ) سبات العنوان وحيوية المحتوى!

+=-

يلفت نظر المتأمل والمتدبر في هذه السورة العظيمة أنها سميت بسورة (الكهف)، وأن مفردة (كهف) وردت خمس مرات في هذه السورة. 
وذلك في قوله تعالى/

(أمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا).

(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا).

(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا).

(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا).

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدًا). 
وللعنوان والتكرار دلالة ما. 
فالمكتوب يقرأ من عنوانه كما يقال، و التكرار يستدعي الأهمية ويسترعي الانتباه.

الكهف قلما يعبر عن حراك، بل يدل على السكون، ويرمز للسبات والنوم، ولكن عندما نستعرض أحداث قصص السورة، ونتوقف مليا عند مفرداتها العظيمة، وسياقاتها المتعددة نجد فيها حركة وحراكا، نوما واستيقاظا، حياة وموتا، ذهابا وعودة، أخذا وعطاء، بناءا وهدما.
فكيف نوفق بين سبات العنوان، وحركية المضمون؟ 
يمكننا قراءة هذا الأمر من أكثر من جانب، أولها وفقا لطبيعة الإنسان نفسها، ومراحل تكونه وتكوينه. 
فالإنسان أول ما يتخلق مضغة وعلقة وجنينا يكون في رحم وبطن أمه، وهما بمثابة الكهف الحامي والواقي له بأمر الله عز وجل. ويظل نائما هناك أو شبه نائم طيلة تلك الفترة، ولكنه بمجرد أن يولد / يخرج من كهفه (رحم/بطن أمه) يبدأ الحركة على هذه البسيطة؛ وهذه الحركة تبدأ بضعف ووهن، وبعض خوف في المراحل الأولى، ومن ثم تكتسب قوة وتأثيرا وفعالية في سني الفتوة والشباب، وتنتهي بالضعف مجددا في خريف العمر، وشيخوخة المرء. 
قال تعالى (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ).
إن الوظيفة (الكهفية) – إن صح التعبير – التي كان يقوم بها رحم الأم وبطنها لجنينها، تتحول في طور آخر إلى حنانها وعطفها واهتمامها وتربيتها وتوجيهها في مرحلتي الطفولة والشباب. 
وفي الشيخوخة يحتاج الإنسان إلى كهف عناية ورعاية وعون من أهله وذويه والمحيطين به، وإن لم يتيسر فمن فاعلي الخير والمؤسسات الاجتماعية ذات العلاقة. 
إن ثمة وظيفة (كهفية) باقية ومستمرة، والحاجة لها دائمة، ولكنها متغيرة في الشكل والمضمون والكيفية. 
ومن هذا يتبين لنا إن الإنسان يحتاج وسط كل حراكه، – ومع كل مايمر به من تغيرات وظروف وأحداث- إلى كهف من نوع ما. 
وعلى مستوى آخر يمكننا التوفيق بين سبات الاسم وحركية المضمون، من حيث كون (الكهف) من أوائل المساكن والمنازل التي عرفها الإنسان الأول، واستخدمها، وكانت بمثابة ملاجئ الأمن والسلامة والنجاة له، مما يهدده من كل مايحيط به من وحوش وحيوانات وضوار وزواحف، بجانب الظروف المناخية المخيفة له كالأعاصير والريح والمطر. 
وكان الإنسان يمارس فعالياته الحياتية، وأنشطته اليومية داخل الكهف وخارجه، لكنه من المؤكد أنه يأوي إليه كل ليلة لينام ويرتاح، مثلما نفعل نحن مع وفي بيوتنا التي هي بمثابة نسخة مطورة من الكهوف.

وفي يقيني والله أعلم، أن تسمية السورة بالكهف ينم أيضا عن أكثر من معنى رمزي ودلالي، فإذا كان الكهف الحسي وقى في غابر الأزمان الإنسان مما يهدده من موجدات بيئته، ومن الأوضاع المناخية المتقلبة، فإن ثمة كهف معنوي – باق حتى يرث الله الأرض ومن عليها – يقي الإنسان في كل زمان ومكان من كل ما يهدده من فتن؛ ومنها الفتن الأربع التي تطرقت لها السورة وهي فتن/
الدين / فتية الكهف
المال / صاحب الجنتين
العلم / موسى عليه السلام مع الخضر
السلطة والقوة / ذو القرنين

والكهف الحامي والواقي بإذن الله تعالى من هذه الفتن وغيرها هو (توحيد الله) عز وجل، وهو المحور الرئيس لهذه السورة العظيمة، كما أنه أيضا محور هذا الكتاب العظيم، الذي شاءت إرادة الله تعالى، لحكمة بالغة أن تتوسطه (سورة الكهف)، وأن تشر له في أول آية من آياتها الكريمة: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَىٰ عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا ۜ ). 
هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين عدد ما ذكره الذاكرون وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 


http://khabar-news.net/articles/96544.html