في رحاب الذكر /

السجود للإنسان .... بين الفرضية والتحريم!

بقلم / خلف سرحان القرشي

..................................................................................

قال تعالى (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) سورة الحجر.

ولقد تكرر ذكر هذه الحادثة أكثر من مرة في القرآن الكريم.

إن التأمل مليًا في هذه الآيات الكريمة وغيرها، يثير أسئلة في الذهن من قبيل ما الحكمة من أمر الله عز وجل لملائكته الكرام بالسجود لآدم؟ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) سورة الأنبياء.

وماالدروس والحكم، وماهي العظات والعبر التي يستفيدها المسلم خصوصا، والمؤمن بالله عموما من سرد القرآن الكريم لهذه الواقعة في أكثر من موضع لاسيما إذا علمنا أن السجود لغير الله عز وجل محرم على المسلمين، بل هو من الشرك المخرج من الملة؟ وإن كان مشروعا في حدود معينة عند أمم سابقة، لكنه نسخ في الإسلام؛ خاتم الأديان وأحسنها وأقومها.

أن الآيات الكريمة لاتريد منا السجود لأي إنسان كائنا من كان، بينما القرآن الكريم - الذي يقص علينا أحسن القصص وأصدقه - يبين أن الملائكة أمرت ونفذت أمر الله عز وجل بالسجود لآدم عليه السلام، كما بين أن رفض إبليس لذلك الأمر كان مدعاة لخروجه من الجنة، وحلول لعنة الله عليه، وفي الآخرة سيكون مصيره الخلود في النار.

يبدو لي - والله أعلم وأحكم - أن الإنسان شرفه الله تعالى بنفخه شيئا من روحه العظيمة بين جنبيه، ولهذا أمر الملائكة بالسجود له لكونه يحمل تلك الهَبَةُ الربانية، والهِبَةُ المقدسة من لدنه عز وجل.

ويبدو لي أيضا أنه من الدروس التي تمنحنا إياها هذه القصة هي أنه ينبغي على الإنسان محبة واحترام وتقدير وتبجيل أخيه الإنسان ليس من أجل الانسانية وعمارة الكون فقط، ولكن من احلالا واحتراما وتقديرا لتلك النفخة الإلهية المتسلسلة فيه جيلا بعد جيل وجينا إثر جين والتي ورثها بشرف وفخر عن أبيه آدم عليه السلام.

ولعل هذا المعنى العميق يعززه قوله تعالى (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) سورة المائدة.

ولكن لماذا لم يلزم الله الإنسان بالسجود للإنسان كما فعل عز وجل مع الملائكة عليهم السلام؟ (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) سورة الأنبياء.

السجود لم يكن - والله أعلم كما أشرت آنفا- إلا من أجل وبسبب تلكدالنفخة الإلهية المودعة في الإنسان، ويبدو - والله أعلم وأحكم- أن الملائكة، ومعهم أو من ضمنهم إبليس لم ينالوا شرفها في خلق الله عز وجل لهم. لذا فالسجود من الأدنى للأعلى.

وهذا الأمر ونتيجة للجهل والكبر والغرور فات إبليس، وظن أن الخيرية والأفضلية متمثلة في عنصري الخلق بينه وبين آدم عليه السلام؛ (الطين) و(النار).

بينما الأفضلية المثلى والخيرية العليا تكمن في احتواء العنصر على نفخة الإله من عدمها.

ولكون الناس متساوون في امتلاكهم لتلك المنحة الربانية المتمثلة في النفخة الالهية، فلا يستقيم أمر ودلالة ومعنى السجود لو كان الإنسان ملزما بالسجود لإنسان مثله.

ثم إن السجود من إنسان لإنسان مدعاة - مع تقادم العهود وتحولات الأزمان - لعبودية واسترقاق ومصادرة كرامة وحرية الإنسان لأخيه الإنسان دونما وجه حق.

لقد أعدم وقتل الإنسان (بعضه وليس كله) منذ وقت مبكر من تاريخه تلك النفخة، أو شوّهها عندما بسط يده لأخيه ليقتله، ناسيا بذلك أو متناسيا إنه بفعله الشنيع هذا، إنما يقتل نفسه المقدسة. ومازال القتل ومنذ ذلك الحين وإلى أن تقوم الساعة مستشريا.

وكل ذلك بقضاء الله وقدره، ولعله من تلبيس إبليس، وانفاذا لوعده المشين أخذا بثأره المزعوم في الانتقام من ذرية آدم عليه السلام.

أيا كان الأمر يبقى السؤال: ماذا حدث للإنسانية ياترى عندما غيبت دلالة سجود الملائكة لأبيها الأول؟ وعندما فاتها إدراك أن ذلك الأمر كان من أوائل الدين الذي فرضه عز وجل على ملائكته الأبرار الذين لايعصون الله ماأمرهم ويفعلون مايؤمرون؟

حال البشرية - الذي شهد ويشهد ملايين من حالات القتل والتشرد والتشرذم، وكذلك الأمراض الفتاكة والنهب والسلب، والمجاعة وتفشي الجريمة والظلم، والإفساد في الأرض - تلكم الحال هي بعض الإجابة على هذا السؤال الكبير المكتنز بمزيد من الأسئلة.

أخي الإنسان/

رسالتي إليك في ختام هذا المقال، هي أن تذكر وتتذكر وتعي بعمق أن الله عز وجل كرم أباك (آدم) عليه السلام بأن أسجد له ملائكته، وكرمك أنت بمنعك من أن تسجد لبشر مثلك كائنا من كان، وأن لاتسجد إلا لله رب العالمين، وياله من شرف رفيع!

وإنك وإن منعت من السجود لإخوانك لبشر، فإنك ألزمت بمحبتهم، وتقديرهم واحترام كبيرهم والعطف على صغيرهم وحفظ حقوقهم في الأنفس والأموال والأعراض والجوارح بلا شرط أو قيد، كنا أنك منعت من إيذائهم والإساءة إليهم إلا بحق واضح بين يقضي به الشرع العظيم.

نسأل الله السداد والتوفيق.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين عدد ما ذكره الذاكرون وعدد ما غفل عن ذكره الغافلون، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.