من وحي آيات الصيام 3
الصيام والأمن الغذائي.
بقلم /
خلف سرحان القرشي
.......
عندما نتأمل ونتدبر آيات الصيام الواردة في سورة البقرة، نجد أن الصيام بجانب كون غرضه الأساسي التقوى، وبجانب كونه رياضة وترويض للجسد، فيه أيضا تحقيق لما يعرف حديثا بـــ (الأمن الغذائي)، فكيف ذلك؟
عندما يتوقف الإنسان بل الأمة كاملة عن تناول الطعام طيلة فترة النهار لمدة شهر كامل، ففي هذا توفير لكميات هائلة من الطعام على مستوى كوكبنا الأرضي، أو على الأقل على مستوى مجتمعات الدول والشعوب والأقليات المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا الفائض المتوفر يذهب جزء منه للفقراء والمعوزين، و يدخر الجزء الآخر لقادم الأيام.
ألم يشر سيدنا يوسف عليه السلام على ملك / فرعون مصر بشئ من هذا القبيل لمواجهة سني القحط والشدة والعسرة؟ قال تعالى: (قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ).
يفترض أن الساعات المتاحة لكل مسلم صائم هي ساعات قليلة، وأعني بها ساعات الليل الذي يكون فيه المسلم مشغولا بفعاليات ومناشط حياتية أخرى بجانب صلاتي التراويح والتهجد، الأمر الذي يجعل من حديث: (بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لامحالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه)، - يجعل منه - واقعا يسهل تطبيقه.
ولعله من اللافت للنظر، أن كفارة الإفطار في رمضان من قبل المريض والمسافر والعاجز عن الصيام، هي الإطعام عن كل يوم مسكينا.
إن الوفرة في الطعام طيلة هذا الشهر تأتي من خلال قلة استهلاك الصائمين للطعام، ومن خلال كفارات الإفطار التي لم يضع الشارع عز وجل لها خيارات أو بدائل، وهو أمر له دلالته، لاسيما إذا ماقورنت بكفارات أخرى فيها الإعتاق والصيام.
وزد على ذلك أن زكاة الفطر الواجب إخراجها قبل صلاة العيد بيوم أو يومين، تكون مقدارا معلوما من أصناف من الطعام؛ من غالب قوت الناس، تعطى للفقراء والمساكين.
الأمن الغذائي الذي يأتي بفضل الله ثم بفضل الصيام، يتحقق متى ما كان المسلم الصائم واعيا ومدركا لحكمة الصيام وأبعاده ومقتضياته، أما إن كان ممن ينتظر أذان المغرب بفارغ الصبر، ليتناول مالذ وطاب من أصناف الطعام والشراب وكأنه ...... حبس عن الطعام عدة أيام، فهذا لن يجعل من الصيام محققا للأمن الغذائي، ولا لقوله عز وجل: ( يَابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، ولا لمبدأ (صوموا تصحوا).
إن هذا وأمثاله يجب أن يذكروا بقوله عليه الصلاة والسلام (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطنه..... الخ).
إن واقع كثير من المسلمين اليوم في الإفراط والتفريط والإسراف وجعل رمضان شهر للمأكولات والمشروبات والحلويات أمور منافية للغرض والغاية والحكمة من الصيام.
(وبضدها تتميز الأشياء)، فلكي ندرك أهمية الأمن الغذائي، علينا التفكير في نقيضه وهو (الجوع)، وخطره على الفرد والأمة، وليس أدل على ذلك، من أن الله سبحانه وتعالى جعل من السلامة منه والنجاة من أول ما أمتن به الله عز وجل على قريش: (فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وأمنهم من خوف).
كما أن الله عز وجل، جعل من الجوع أول شئ عاقب به القرية التي كفرت بأنعم الله. قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ).
كما أن الله عز وجل جعل الجوع من ضمن ما يبتلي به عباده ليختبر إيمانهم وصبرهم، قال تعالى:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ).
إن حروبا تنشب، و أرواحا تزهق، وأمراض تنشأ وتتطور بسبب المجاعات، وما يحدث في بعض أقطار القارة الأفريقية، ومعاناة أهلها على جميع المستويات إلا شاهد عدل على ذلك.
وورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم استعاذته من الجوع، حيث قال:
(اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة).
وهاهي منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو) تجلي القضية بالأرقام وتذكر في موقعها على النت التالي:
(التحدي الذي يواجهنا: يملك العالم قدرة كافية على إنتاج ما يكفي من الأغذية لإطعام كل فرد بالقدر الكافي، ومع ذلك ورغم التقدم الذي أحرز في العقدين الأخيرين، مازال هناك 793 مليون نسمة يعانون من الجوع المزمن).
ويضيف الموقع:
(.... فهناك ما يقدر بنحو 161 مليون طفل دون الخامسة من العمر يعانون من سوء التغذية المزمن"التقزم" ويعاني من نقص العناصر الغذائية الدقيقة أو "الجوع الخفي" أكثر من ملياري نسمة في جميع أنحاء العالم، مما يعرقل التنمية البشرية والتنمية الاجتماعية – الاقتصادية ويسهم في حلقة مفرغة من سوء التغذية والتخلف. وفي نفس الوقت، هناك 500 مليون نسمة يعانون من البدانة).
ولا يخفى على ذي لب أن الجوع يقود لمشاكل وجرائم عدة، تنعكس سلبا على الأفراد والمجتمعات والعالم بأسره.
إن معالجة الإسلام لقضية الجوع والمجاعات، لا تقتصر على مايمكن أن يوفره الصيام والكفارات والزكوات من فائض غذائي، بل إن هناك عدة وسائل ليس هنا مجال عرضها.
ولكن الصيام يظل رافدا مهما، وسمة ومساهمة للأمة الإسلامية في هذا المجال.
....................................................................................................................................