من وحي آيات الصيام (1)

أننادي ربنا أم نناجيه؟

بقلم / خلف سرحان القرشي

...............

بدأت الآيات المتعلقة بالصيام وأحكامه في سورة البقرة من الآية رقم 183، وانتهت عند الآية رقم 187. وجاءت آية (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون) من ضمن التسلسل (رقم 186) رغم أن لاعلاقة (ظاهريا) بين ماتحدثت عنه الآية الكريمة وبين الصيام وأحكامه!

فما السر وراء ذلك؟

لنسترجع الآيات الكريمة معا/

قال تعالى:

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ۚ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ۖ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ۚ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187).

يبين الله تعالى في هذه الآيات الحكمة من فرضه عز وجل للصيام وهي (لعلكم تتقون)، ويبين عز وجل أيضا أن عظمة شهر رمضان تأتي من كونه (الذي أنزل فيه القرآن)، وبذلك يظل هذا الشهر وعبر الأزمان وإلى أن تقوم الساعة مكتنزا بطاقة روحانية عظيمة تسمو بمن ينال نفحاتها الربانية ليكون أكثر قربا من الله عز وجل.

إن نيل تلك النفحات المباركة أو شيئ منها يكون بالصيام والقيام والدعاء، وكذلك بالتأمل والتدبر لأي الذكر الحكيم.

مجئ آية الدعاء بين آيات الصيام هنا أمر له دلالته.

من صام رمضان إيمانا واحتسابا، واقترب أكثر وأكثر من (القرآن الكريم) المرتبط ب (رمضان) - ارتباط السوار بالمعصم - نحسبه بإذن الله والله حسيبه - قد بلغ درجة التقوى أو بعضا منها، ومن بلغ هذه الدرجة نال مقام القرب من الله، وهذا مقام عظيم، طوبى لمن حظي به، وشرف بالوصول إليه!

الله عز وجل قريب جدا من العباد. هذه حقيقة تؤكدها الآية هنا، وغيرها من آيات في مواضع أخرى من الكتاب العظيم. ولكن هل العِبَادُ قريبٌون من الله سبحانه وتعالى؟وهل كلهم حريص على ذلك؟

لله المثل الأعلى. في مسابقات الجري لن يفوز بالقمة ويصل إلى خط النهاية إلا من تدرب جيدا، وتهيأ لذلك نفسيا وجسديا.

الصيام أداة ناجعة، ووسيلة مجدية للوصول لخط النهاية المتمثل هنا في (القرب) من الله عز وجل.

والقرب يحتاج إلى اقتراب ووصول رغم أنه قريب. ياللعجب؟

(ومايلقاها إلا الذين صبروا ومايلقاها إلا ذو حظ عظيم).

قد يكون الملك أو الرئيس في قصره، وثمة جار له، منزله قريب منه. ليس بالضرورة أن يتسنى لذلك الجار مقابلة الملك كل ماأراد.

هناك حراس وحجبة، وبروتوكولات ومواعيد تحول بين الجار القريب ولقيا جاره الملك / الرئيس، وجل هذه الموانع والحواجز هي من جهة الملك / الرئيس، وليس من جهة جاره البسيط.

مع رب العالمين الذي ليس كمثله شئ الأمر مختلف تماما.

الأسباب التي تحول بين العبد والاقتراب من الله عز وجل الذي هو (أقرب إليه من حبل الوريد)، هي أسباب تتعلق بالعبد نفسه!

لابد أن يدعو ويؤمن، ولكي يمارس ذلك بشكل سليم، فلابد له من قلب خاشع، وجوارح خاضعة ومشاعر صادقة، ولكي يصل إلى ذلك لابد أن يتحرر بعض الوقت من بعض الشهوات الجسدية وليس مثل الصيام والقيام سبيلا إلى ذلك.

الصيام رياضة للجسد المادي الذي يحمل في ثناياه الروح التي تسيره وتوجهه.

وكما أن الصوم عبادة غايتها التقوى، فإن الدعاء عبادة أيضا، وورد في الأثر أنه مخ العبادة، وغايته القرب من الله عز وجل.

وتصبح الغايتان (التقوى والقرب) هما خط النهاية في مرحلة سباق يطول أحيانا ويقصر أحيانا أخرى وهي (عمرك) أيها الإنسان.

وكما أن الصيام رياضة للجسد، فإن رياضة الروح تكون بأمور عدة ومنها؛ (القرآن العظيم) قراءة وتدبرا، إمعانا وتفكرا، استحضارا وممارسة.

ألم يكن جبريل عليه السلام يدارس الرسول صلى الله عليه وسلم القرآن في كل رمضان؟

روي أن أعرابياً قال: يا رسول الله: هل اللّه قريب فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه: { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي...}.

وهناك علاقة أيضا بين قربه عز وجل من عباده، وبين معرفته وعلمه بأحوالهم، ورحمته وتيسيره عليهم (ألايعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)؟

يقول الله تعالى بعد أن أشار لقربه من عباده: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ.......). فهو ينهاههم عن تأنيب الضمير، وجلد الذات.

بقدر مايريد الله سبحانه وتعالى من عباده - وهو الغني عنهم - الوصول لسقف عال من الروحانية والشفافية من خلال رياضة وتدريب الجسد والروح، ألا إنه من رحمته بهم لايريد أن يشق عليهم، فترك لهم مجالا في ممارسة الحياة العادية في غير وقت الصيام.

القرب من الله يتطلب من راغبه مجاهدة من نوع ما، ولكنها مجاهدة محتملة مقدور عليها، (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها)، وهذه المجاهدة ليست (رهبانية) شاقة مثل تلك التي ابتدعها بعض النصارى، فمارعوها حق رعايتها، وكانوا بها كافرين.

قال تعالى: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ).

هذا وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

...........