كثيرًا ما يُتهم المسلمون بأنهم يتعاملون مع الحضارة الغربية بعدائية، وأن الدين الإسلامي دين جامد لا يتماشى معها، وأننا كمسلمين عالقون في زمن أمجادنا الأول ولم نستطع تجاوزه، وأننا نبكي على الأطلال في كل مناسبة يذكر فيها التاريخ، ومسيرات تأسيس العلوم.
غير أن كل ذلك غير دقيق ويعتبر رأيًا خارج عن المنطق وتنقصه الموضوعية، حتى لو نطق به أبناء جلدتنا الذين سقطوا صرعى أمام هالة الحضارة الغربية، ويتبعونها دون تفكير، أو نقد، أو حتى تحليل بسيط بلا مجهود.
نظرة الإسلام للحضارة الغربية هي نظرة فاحصة تفصيلية، منطلقة من منهجنا العظيم، حيث لا يوجد مانع شرعي ينهى عن الاستفادة من العلوم، ولا يحثنا على نصب العداء مع الحضارة الغربية، ولكن يجب علينا وضعها تحت مجهر للتدقيق فيها وأخذ ما يفيد ورد ما هو ضار. والجدير بالذكر هنا، أن الانتفاع بتلك الحضارة لا يتنافى أبدا مع عدم الانبهار بها، والتطبيل لها ليلًا نهارًا وكأنها وحي منزل، فهي مليئة بالخطايا، والمقدمات الفاسدة التي عادت على البشرية بالويلات. سنناقش في هذا المقال نظرة الإسلام للحضارة الغربية، محاولين توضيح الأمور، لإزالة اللغط الحاصل بخصوص هذا الأمر.
نظرة الإسلام للحضارة الغربية
أولًا: يجب التنبيه على أننا كمسلمين، نرى الحضارة سواء الشرقية أو الغربية، وسيلة لتحقيق مراد الله وهي عبادته، وليست غاية مجردة يُمتهن فيها الإنسان للحد الذي يتحول فيها إلى آلة لتحريك عجلة الحضارة سواء كانت منطلقة من نظرية رأسمالية أو اشتراكية أو غيرهما.
ثانيًا: نحن نميز بين الوجه العلمي والسياسي والفلسفي للحضارة، وسنتحدث عن كل وجهٍ على حدة.
1- الوجه العلمي
في هذا الجانب من الحضارة الغربية تدخل منتجات تجريبية، وعلوم طبيعية، وتكنولوجيا، وتصنيع، ونظم اتصال وحوسبة، وهي أدوات محضة، بحيث تستطيع كل أمة أن توظفها على حسب قيمها دون إحداث أي ضرر، فهي حكمة مشتركة، وصواب الغرب فيها أكثر من ضلاله. بل إنه لم يعد هذا المجال حكرًا على الغرب، فهناك أمم أخرى أصبحت بارعة فيه، كالصين واليابان والهند. ولأن هذه المنتجات مستمدة من القوانين الطبيعية التي أودعها الله في الكون، فهي شيء مشترك لا تتأثر باختلاف الخلفية الدينية.
ومن المعروف أن الشباب المسلم لديهم إقبال كبير على دراسة الطب والهندسة والحاسوب، فهي صورة نمطية راسخة عنهم. وأشار إلى ذلك الفرانكفوني المتطرف محمد أركون حين قال: “نحن نعرف أن اغلب طلاب كليات العلوم والتقنية ينتسبون إلى التيارات الأصولية السلفية – يقصد المسلمين –، وإن دارسي الرياضيات والفيزياء والهندسة ينخرطون في هذه التيارات أكثر من العلوم الاجتماعية والإنسانية”.
كل الذي ذكرناها يؤكد خطأ القول بأن المسلمون ضد المثاقفة والاستفادة من الإنجازات.
2- الوجه الفلسفي للحضارة الغربية
هذا الوجه بما يتضمنه من أسئلة وجودية ومعرفية، وما تحويه حقول الفلسفة الكبرى من مفهوم السعادة، ودور الإنسان وحدوده، ومآل البشرية بعد الفناء، والأخلاق ونسبيتها، ومصادر المعرفة، كل ذلك ضلال الغرب فيه أكثر من صوابه. فهذا الجانب من الحضارة الغربية مظلم، ومليء بالشكوك، وكل عالم فيه يأتي بفكرة تهدم فكرة من قبله، لا يفيد شيء إلا زيادة الحيرة والتخبط، حتى يوصلك للعدمية، حيث لا أفكار، لا معتقدات، لا مرجعية تقيس عليها أفعالك أنت والبشر، بمعنى تصبح داخل دوامة من اللامفهوم.
حتى إن أصبح شعار مريدي هذا الجانب هو “المهم أن تطرح أسئلة”، ومن المعروف عن مؤرخي الفلسفة قولهم: “الفلسفة تقدم الأسئلة بما يفوق تقديمها للإجابات”، وما نفع كثرة الأسئلة بلا إجابات تهدأ بها الروح، وتروي نفس الإنسان المتعطشة للانتماء والسكينة؟
يقول ابن تيمية في نقد أسلوبهم التسائلي: “إنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض، والقدح، والجدل، ومن المعلوم أن الاعتراض والقدح ليس بعلم، ولا فيه منفعة، وأحسن أحوال صاحبه، أن يكون بمنزلة العامّي، وإنما العلم في جواب السؤال”. ويجدر هنا الإشارة إلى أن هذا الوجه الفلسفي ليس الوجه المتقدم للحضارة الغربية، فبرغم تقديمه على أنه هو الأساس والحضارة انعكاس له، إلا إنه هو الوجه المظلم والمتخلف لها.
3- الوجه السياسي
يعتبر هذا الوجه هو الوجه الكالح للحضارة الغربية، فمن منا لم يرَ سياسات الغرب الإمبريالية التوسعية التي لا هم لها سوى نهب ثروات الشعوب حتى لو أدى ذلك إلى إبادتها جميعًا. تلك السياسة التي تُبيح إسقاط الأخلاق، والعهود، والمواثيق من أجل تحقيق مصالحها. وتلك السياسة تنادي بالديمقراطية في الداخل فقط على أحسن تقدير، أما خارجها متسلطة دموية، والتاريخ مليء بأفعالهم، وحروبهم، وانتهاكاتهم، وأكاذيبهم السياسية التي أطلقوها لغزو الشعوب طمعا في ثرواتها.
ختامًا أريد القول بأن نظرة الإسلام للحضارة الغربية، نظرة فاحصة تقييمية وليست انقيادية عمياء، نختار ما يناسب قيمنا وديننا، وما يخدم إنسانيتنا، فلدينا معاييرنا ورسالتنا الخاصة كمسلمين.