ان التفاؤل المفرط والثقة الزائدة بالآخرين قد تفضي الى خيبات الامل والاحباط , وكان الفيلسوف الرواقي سينيكا يؤمن بأن ما يدفعنا إلى الغضب والتألم والإحباط من عدم استجابة القدر لما فكرنا فيه ورغبنا بتحقيقه على ارض الواقع ، هو التفاؤل المبالغ فيه، تجاه الحياة والأشياء ؛ اذ قال : (( إن ما يدفعنا إلى الغضب هي أفكارٌ تفاؤلية على نحو خطير بشأن ماهية العالم والناس )) والنصيحة الخطيرة اللي يسديها إلينا الفيلسوف الروماني سينيكا ؛ مفادها : "يجب ان نبقي في ذهننا احتمالية وقوع كارثة في أي لحظة ! ؛ حتى إنه وصف تفاؤلنا وحسن ظننا بالواقع، بأنه "براءة خطيرة" ... ؛ واكمل سينيكا رؤيته الفلسفية , قائلا : (( الطبيعة لم تخلق مكانا يتسم بالثبات… لا شيء مستقر , مصائر البشر، ومصائر المدن، في دوامة )) ويؤمن سينيكا بقوة؛ بأن الإيمان بهذا اللاثبات في الحياة ، يقلل إحباطنا أمام الأشياء إذا لم تحصل مثل ما نتوقع ... , فكلما كان الشخص أكثر تفاؤلا وحدث ما لم يتوقعه، كلما كان أكثر انهيارا وتأثرا والعكس صحيح ... , ولا يفهم من مقولة سينيكا الفلسفية الدعوة الى التشاؤم واليأس او العبثية , بقدر ما تدعو الانسان الى الاتزان والواقعية وعدم الانسياق وراء احلام اليقظة ومشاعر التفاؤل المبالغ فيه والزائد عن الحد الطبيعي , والدليل على صحة ما ذهبنا اليه , مقولته الشهيرة : ((لا تسمح لمجرد يوم سيئ أن يشعرك أن حيــــاتك سيئة )) بخلاف دوستويفسكي القائل : (( لا تسمحوا لمجرد يوم جميل أن يشعركم بأن لديكم حياة سعيدة، حياتكم جحيم وستبقى كذلك!! )) فالرجل ليس ظلاميا او تشاؤميا ؛ اذ كان يحارب الانفعالات ويدعو إلى لغة العقل المتزن، فالرجل الحكيم في نظره هو الذي يسمو على الغضب متجاوزاً تجارب الحياة القاسية ؛ وبما ان التفاؤل المفرط احد اسباب الغضب , فالأجدر بالمرء تجنبه ايضا , فمن كان يؤمن بكلام سينيكا لن يخاف من أي مرض أو كارثة أخرى لأنه يتوقف حدوثها اولا , ويعلم بطبيعة وحتمية هذه الامور والاحداث في الحياة ثانيا ؛،أما المتفائلون - المفرطون بالتفاؤل – والحالمون فلا عزاء لهم، لأنهم سوف يصدمون بحقائق الامور وقسوة الواقع ؛ وقد يتحول العالم بنظرهم الى غابة او كتلة من التناقضات... ؛ فهو عندما يدعونا الى عدم الافراط بالتفاؤل وتوقع الاحداث السيئة , لا يقصد من ذلك , ترك المرء للتفاؤل بصورة قطعية , وملازمة الشعور بالتعاسة بسبب توقع المصائب والبلايا , بقدر ما يدعو الى الواقعية والاستعداد النفسي والعقلي الكامل لكل التحديات والتحولات والازمات التي قد تطرأ على حياة المرء , فهو يطلب منا عدم المبالغة بالتفاؤل وكذلك بالاسى والحزن والقلق , لذلك اشار سينيكا على صديقه , قائلا : (( ما أنصحك به هو ألا تكون تعيسا قبل حلول الأزمة؛ لأنه يمكن للأخطار التي يشحب لونك قبلها كما لو كان تهديدها واقعا ألا تصيبك؛ فهي بالتأكيد لم تأت بعد ؛ وبالتالي ، فإن بعض الأشياء تعذبنا أكثر مما ينبغي لها أن تعذبنا، وبعضها يعذبنا قبل أن يجب وبعضها يعذبنا في حين لا يجب أن يعذبنا على الإطلاق ؛ إننا واقعون تحت وطأة عادة المبالغة في الأسى أو تخيله وتوقعه )) .
نعم انه يطلب منا عدم تبديد طاقاتنا العقلية ومشاعرنا العاطفية ؛ فالتفاؤل المفرط قد يؤدي الى الالم والندم , وكذلك المقلقات غير المعقولة , بل حتى الامور المتوقعة التي نخاف منها احيانا قد لا تقع , فكم مرة حدث ما هو غير متوقع ! وكم مر المتوقع دون حدوث ! ورغم كونه مقرر الحدوث، فقد يهيء العقل لنفسه في بعض الأحيان أشكالا غير حقيقية من الشر بينما لا علامات تشير إلى أي شر ؛ ويحول بعض الكلمات ذات المعاني المبهمة إلى أسوأ الأشكال أو يعتبر بعض الضغينة الشخصية أكثر خطورة مما هي عليه حقا ... ، فالمهلكة الأكبر من القلق في غير محله -كما يحذر سينيكا- تكمن في أنه عبر إبقائنا متوترين دائما في انتظار كارثة متخيلة، يمنعنا القلق من عيش الحياة لأقصاها... ؛ وينهي رسالته لصديقه ؛ بنص مقتبس لأبيقور: "الأحمق هو من يتأهب للحياة دائما"... ؛ اي الذي يبالغ بحدوث الشر او الخير , ولا يعيش الواقعية والاتزان .
البعض يملئ رأسه بمئات الأحلام الطوباوية ويغذي خياله بمئات مماثلة من الصور السعيدة و التي تخبر أصحابها كم ستكون الحياة سعيدة عندما تحقق هذه الأحلام , والبعض الاخر يعيش احلام اليقظة بصورة مرضية , وعندها يفقد القدرة على التمييز بين ما هو واقعي وما هو خيالي وما بين الحقيقة المرة والمفروض حصوله , ورُبّما يُعلِّق البعض آمالاً عريضة على الغير , ويثقون ثقة عمياء بالآخرين , واذا بهم يصدمون كما صدم من قبلهم الشاعر ابو العلاء المعري , الذي انشد قائلا :
وَهَّمتُ خَيراً في الزَمانِ وَأَهلِهِ *** وَكانَ خَيالاً لا يَصِحُّ التَوَهُّمُ
فَما النورُ نَوّارٌ وَلا الفَجرُ جَدوَلٌ *** وَلا الشَمسُ دينارٌ وَلا البَدرُ دِرهِمُ
فالإنسان الذي يرفع كثيرا من سقف تطلعاته واهدافه واحلامه بحيث لا تتناسب مع امكاناته التي يقف عليها او واقعه وبيئته ؛ سيصاب دائما بالإحباط والغضب وعدم القناعة ولن يتمتع بالتوازن النفسي او بما هو موجود بين يديه ؛ وعندها ينطبق عليه المثل الشعبي القائل : (( ال تمنه ما تهنه ... ؛ او الذي ينظر الى قصر الغير يخرب كوخه )) .
نعم ان الذي يحقق الاحلام والاهداف , ويخفف من وقع الاحداث والمصائب ؛ التخطيط العلمي والرؤية الواقعية وتقدير الامور تقديرا حكيما ؛ والاستعداد للطوارئ والتكيف مع التقلبات والتحديات والازمات , والتفكير الاستراتيجي في كيفية الخلاص منها , وتنمية الطاقات واكتساب المهارات ؛ فلابد من الربط بين سقف الطموحات وحقيقة الامكانيات ؛ اذ ان ارتفاع سقف الطموحات الذي يصاحبه قصور بالإمكانيات لتحقيقها ؛ يبعدنا عن السعادة ويقربنا من التعاسة ؛ وعندما نكون على يقين اننا نعيش بتوازن تام و واقعية عقلانية ؛ عندها ينتج الاستقرار العاطفي و الرضا على الحياة والتكيف مع احوالها وتقلباتها المفاجئة .