Image title


(نُشِرتْ في المجلة العربية)

سقطت الأرقام من بطاقة هويته، ربما ماتت، أو هربت، لا أحد يعرف شيئًا عن تفاصيل اختفائها الغامض.

في مكتب الأحوال حيث اتجه باحثًا عن نسخة احتياطية للرقم الذي يشير إليه أخبره الموظف أنه غير مُدرج ضمن ملايين الأسماء والأرقام المسجلة في النظام. ارتعب الرجل الذي فقد أرقامه، تضرّع للموظف أن يساعده في استخراج (بدل مفقود) لكنّ الموظف أخبره أنه غير موجود أصلًا ولذا لا يُمكن اعتباره ضمن المفقودات، وبصوته الخافت الذي درّبه الروتين على التعايش مع السأم قال الموظف دون أن يرفع بصره عن الكمبيوتر: النظام نظام، كيف أُبدل شيئًا لا وجود له من الأساس؟

خرج الرجل غاضبًا وطلب مقابلة المدير، لكن السكرتير رفض طلبه بعد أن نظر إلى هويته التي ضاعت أرقامها وقال: المدير مشغول ولا يُمكنني ترتيب موعد لك دون بطاقة تعريف، وبطاقة تعريفك غير صالحة.

خرجَ هائمًا على وجهه، يتذكر دروس القواعد، يتذكر النكرة التي كان بوسعها التملص من تنكيرها حين تتكئ على معرفة فيتم تعريفها بالإضافة. فكّر في كل الموجودات التي يُمكن أن يصير مُضافًا إليها. هل يضيف ذاته إلى الأرض؟ لكنها شاسعة ومتعبة من خطى العابرين، لا يمكنها تعريفه ولا التعرف عليه، ستضيّعه في زحامها وتتنكر لوجهه.

هل يُعرّف ذاته بإضافتها إلى لأحلام؟ لا يُمكن، فالأحلام ليس لها وجود مادي يمكن الاتكاء عليه، إنها كأضواء بناية شاهقة وبعيده، تنطفئ تدريجيًا بحلول المساء فتتركه في عتمة التنكير.

ماذا عن الإضافة إلى الحكومة؟ شبه مستحيلة، فالحكومات لا تُضيف إليها إلا من يحتفظون بأرقامهم مُصانة ونائية عن النسيان.، إنها لا تعرف الناس إلا من خلال الأرقام.

بوسعه إضافة نفسه إلى الأصدقاء، لكنّها مغامرة خطرة، فالأصدقاء يرحلون، تتخطفهم الدروب دائمًا، يخشى أن يسحلوه خلفهم في الطرقات حين يناديهم منادي الرحيل.

ماذا لو أسند ذاته النكرة إلى المرأة؟ ربما ستنظر إليه بدهشة وتسأله عن تاريخه السابق مع التعريف، هي التي لا يعترف بها أحد حتى حين تكون مضافة تلوذ بظلال من أُضيفت إليه.

أخيرًا: فكّر في رشوة الموظف لعلّه يبتكر وجودًا لغير الموجود، لعلّه يمنحه ورقة تعترف به وتعيده علمًا على رأسه أرقام تدلُّ عليه.

وقف أمام الصرّاف، أخرج البطاقة من جيبه وهو يُفكر في المبلغ الملائم لإغراء موظف الأحوال. وضع البطاقة في مدخلها لكنها عادت إليه، حاول ثانية ولفظها الصرّاف مباشرةً قبل أن يبتلع ربعها على الأقل. سحب البطاقة ليتأكد أنها غير مقلوبة، فلم يرَ فوقها أي رقم، اختفت أرقامها أيضا... كيف تواترت الأرقام على الهرب؟

قرر الذهاب إلى البنك، وهُناك وقف مذعورًا حين طالب بمدخراته فأخبره الموظف أنه لا يملك حسابًا بنكيًا. اعترض على هذا الإدّعاء، لكنه عجز عن إثبات العكس، لقد فرّ رقم الحساب أيضا إلى جهة غير معلومة.

في مقر عمله عانى من تجاهل الجميع، لا اتصالات ترد إليه، ولا معاملات تُحال عليه، ولا زملاء يبادلونه تحية الصباح... لقد صار بلا رقم هاتف، بلا رقم مكتب، بلا أرقام في الساعة... وحين قرر تقديم استقالته اعتراضًا على هذه البطالة المقنعة، أخبره المدير أن استقالته مرفوضة، لأنه لا يملك رقمًا وظيفيًا من الأساس، وبالتالي لا معنى لاستقالته هذه، كيف تستقيل وأنت لست على على قيد العمل؟

في المساء يعود إلى شقته بعد نهار مضني يقضيه في البحث عن الأرقام، أرقام لوحات، أرقام شوارع، أرقام سيارات، أي أرقام... لا يجد شيئًا، حتى رقم شقته لا يجده، فيقضي نصف المساء في البحث عن بابه المُندس وسط الأبواب المتشابهة. ويقضي النصف الثاني من مسائه في محاولة تقدير تواريخ انتهاء صلاحية المواد الغذائية الموجودة في ثلاجته، فقد غابت الأرقام التي كانت مسجلة عليها.

نتيجة لكل هذا أصابه التسمم مرات عديدة، وداهمه الجوع بسبب إيقافه عن العمل، ربض على قلبه سأمُ البطالة. فقرر الانتحار بعد مرور أسبوعين على خيانة الأرقام، ابتلع عددًا كبيرًا من الحبوب المنوّمة، واستلقى في سريره مُرّحبًا بموتٍ يعترف به ويعرّفه للمؤبنين فيما بعد، لكنّ الموت تلكأ كثيرًا، تلكأ لساعات ثمّ اعتذر عن الحضور لأن جسد الرجل الذي خانته الأرقام كان عاجزًا عن إدراك عدد الحبوب التي ابتلعها، وبالتالي لم يستجب لها.