أظن أن من أهم السمات التي ستلحظها الأجيال البشرية اللاحقة على هذا الجيل ، هي انحدار الذوق
انحدار الذوق في كل المجالات ، كل المجالات حرفيا وليس مجازا .
في كل مجال لا ينتشر ولا يتصدر ولا يُقلد إلا السيّء والقبيح والهابط
رداءة الذوق هذه ليست سمة محلية عربية ولكنها عالمية ، بل أزعم أن العالم الغربي هو المسؤول عنها وهي نتاج حضارته.
لا شيء يقرب المعاني إلى الأذهان مثل ضرب الأمثلة .
ولكثرة الأمثلة والمجالات سأذكر أمثلة مختصرة ومنوعة على هذه الظاهرة .
في الفن مثلا الذي يفترض أن يكون معبرا عن الجمال ومقتبسا منه ، أصبح الفن المعاصر مصدرا للقبح والسطحية ومثيرا للاشمئزاز
ففي الأدب المحلي ، ليس أدل على انحدار الذوق العام ، من معرفة أكثر الكتب مبيعا في الأسواق .
وجملة "أكثر الكتب مبيعا" تكاد تعني تماما أكثر الكتب رداءة وابتذالا ، وأعتقد أن "أكثر الكتب مبيعا" جملة تحذيرية أكثر من كونها جملة جاذبة .
أما في السينما العالمية ، فأسوأ الأفلام باتفاق الكثير من النقاد هي الأفلام المعاصرة ، أفلام الرعب والجذب والإثارة من أول دقيقة إلى آخر دقيقة ، وخير شاهد على هذه الرداءة ، هو عدد مشاهدات أفلام paranormal activity بأجزائه الخمسة .
أما الأفلام والمسلسلات العربية المعاصرة فقد انحدرت هي الأخرى مع جملة الانحدار العام ، فأصبحت أفلام محمد رمضان التي يصفها النقاد بأنها مجرد "بلطجة" هي الرقم واحد في تحقيق الإيرادات.
وأصبح مسلسل شباب البومب الأكثر مشاهدة !
أما في الغناء العربي ، يتضح انحدار الذوق العام بشكل واضح ، فعدد المشاهدات في اليوتيوب أصبحت مقياس واضح لنجاح أي عمل ، فعلى سبيل المثال مشاهدات أغنية "إنت معلم" لسعد المجرد تجاوزت ٥٠٠ مليون مشاهد ، بينما عدد مشاهدات أغاني طلال مداح مجتمعة لا تأتي بربع مشاهدات أغنية المجرد هذه .
وبعيدا عن الفن وفي عالم الأزياء والموضة ، يكاد القبح أن يكون أحد شروط الزي المعاصر ، الجينز الممزق من كل جهة ، والتي شيرت الذي يصل إلى حد الركبة ، وأزياء أخرى كثيرة لا تدل إلا على رداءة الذوق المعاصر ، ولو كان لي خبرة في الأزياء النسائية لذكرت أمثلة لا حصر لها .
وأخيرا ثمة نوع آخر يدل على انحدار الذوق العام ، فهناك الأشخاص الذين اختارهم الناس -بوعي أو غير وعي - ليكونوا الأكثر شهرة وظهورا في الإعلام ، فالأكثر شهرة في هذا الزمن هم الأكثر تخلفا وهبوطا وسماجة ، ولا داعي لذكر أمثلة على هؤلاء المشاهير ، فكل من يقرأ هذه الأسطر قد طرأ عليه مثالا أو اثنين على الأقل على هذه النماذج .
إن تأملت هذه الأمثلة وغيرها الكثير ، تجدها من تجليات العصر الحديث ، أو على وجه الدقة عصر ما بعد الحداثة كون أن هذه الرداءة مصدرها غربيّ كما أزعم .
فقبل زمن ليس بالبعيد لم يكن هذا القبح الذي اجتاح كل المجالات موجودا بمثل هذا الوضوح ، وحتى لو كان موجودا لم يكن الأكثر انتشارا وطلبا.
لذلك قد تكون أسباب انحدار الذوق العام هي ذاتها سمات العصر الحديث ، فعصر السرعة حيث قل صبر الناس على تحمل الأشياء الجادة والعميقة وفضلوا عليها الأشياء الأكثر سذاجة وتفاهة ، وعصر سهولة الحصول على الشيء وسرعة استهلاكه حيث قل الاهتمام بالجيد وذي الكفاءة فمصير كل شيء إلى زوال ، وعصر العالم المفتوح وشبكات التواصل حيث أصبح لفت الأنظار ولو بطرق غريبة وقبيحة هدفاً عزيز الطلب .
قد تكون هذه وغيرها أسباب انحدار الذوق العام .