في احدى الليالي الظلماء فر ابوها من قريته النائية بعد ان ارتكب احد ابناءه جريمة قتل بسبب شجار بينه وبين احد اقاربه , فجاء مهاجرا الى العاصمة وسكن في احدى الاحياء البائسة ( التجاوزات ) وعاش فيه كما كان في قريته ؛ اذ لم يتغير نمط حياته قط , ولم تتبدل طباعه وعاداته , فجاء وجاءت معه , عقده النفسية , وطبائعه الريفية , وقيمه العشائرية , وتصرفاته الرعناء وتصريحاته الجوفاء فضلا عن ( خزعبلاته وعنترياته ) استعراض عضلاته وابراز قوته بسبب ومن دون سبب ... . 

عاش في مكانه الجديد مع اولاده الخمسة , وبناته الثلاث , وزوجته ؛ وسرعان مع تأقلم مع اجواء الحي ؛ لأنه يضم الكثير من اشباهه , ويقطنه الكثير من ابناء القرى البعيدة والارياف النائية , وانقضت الايام ومضت السنين وانصرمت الاعوام ؛ وخلال هذه المدة , تزوج اولاده الخمسة وانجبوا 23 طفلا , وكذلك تزوجت مريم الكبيرة وانجبت 5 اطفال , وتزوجت حمدية وانجبت 4 اطفال وقد تزوجن من اخوين يعيشان في نفس الدار مع بقية افراد العائلة الكبيرة والمتكونة من 27 فرد ؛ بينما عاشت حرية الصغيرة والتي هي اخر العنقود مع امها وابيها , وكانت عيشة جميع العائلة بما فيها عيشة البنات المتزوجات من عائلة الحاج عبود وبالتحديد من ابنيه جاسم ومحمد , عيشة ضنكة ورتيبة ومملة وتعتريها حالات الشجار والصياح والضرب المبرح احيانا والذي لا يطال الاطفال والنساء فقط بل يشمل الشباب والرجال ايضا , فقد يركل محمد مؤخرة اخيه جاسم , وقد يصفع الاب وجه ابنه , وتلطم الام خد ابنتها ... .

واغرت اجواء العاصمة الاب خلف , وراح يجر اذيال التصابي , ويدخل مواقع التواصل الاجتماعي لاصطياد النساء , والتغرير بهن ثم ممارسة الجنس معهن , بالإضافة الى ارتياده الملاهي الليلية , على الرغم من كبر سنه وبياض شعره , بل وصل الامر به الى القيام بمغامرات صبيانية يستحي الشباب من فعلها , ففي ذات يوم ذهب الى بيت عشيقته الارملة وهددها بالسلاح , ثم رمى قنبلة يدوية صوتية في فناء الدار , مما اثار رعب المرأة والجيران معا , وكان يشعر بالزهو والغبطة والسرور عندما يقوم بمثل هذه التصرفات بل ويعتبرها من الرجولة والفتوة . 

وفي الوقت نفسه كان غيورا على النساء ومتحفظا ولا يسمح بخروج النساء او اختلاطهن بالرجال فضلا عن التحدث معهم او مجاملتهم او اقامة اي نوع من العلاقات معهم , وكان يسترق السمع لاحاديث النساء ويتجسس عليهن احيانا ليعرف ما يدور في خلدهن لاسيما ان كنا مجتمعات معا .

ولسوء اخلاقه وخشونة طبعه وغلظته وقساوته تفرق الجمع عنه ؛ فقد خرج ابناءه الاربعة منه , ولم يبق معه الا اصغرهم , واثنان منهم اشتروا بيوت بالقرب منه والاخران استأجرا منزلا لهما , واغلب اولاده ساروا بسيرته ومشوا على نهجه الاعوج في الحياة , ومن شابه اباه فما ظلم , فما من يوم  يمر  من دون مشكلة او شجار او نزاع مع الجيران او المارة او الناس , وفي احدى المرات ذهب ابنه الكبير حمزة الى مطعم بالقرب من منطقتهم السكنية , واراد شراء دجاجة من صاحب المطعم , وعندما سأله عن ثمنها , أجابه صاحب المطعم : 10 الاف دينار فقط , واخذها منه ورجع الى بيته , وأفترسها بعد ان شرب قنينة كاملة من الخمر ( بطل عرك ) , وهو كعادته يخرج الى الدربونة ( الفرع) بعد ان يفرغ من الشرب والاكل , ينظر في وجوه المارة ويتفحص الناس , وفي هذه الاثناء مر منه احد الجيران حاملا معه دجاجة مشوية ( سفري) في كيس يحمل علامة المطعم نفسه , فسأله حمزة عن سعرها ؛ فأجابه جاره : 9 الاف دينار فقط , وعندما سمع بالسعر جن جنونه , وفار تنوره ,  و انتفخت أوداجه , و هرول راكضا الى المطعم , وسأل صاحب المطعم وبصورة استفزازية عن سبب بيعه الدجاج لهما بسعرين مختلفين , فأجابه : وما شأنك انت انا صاحب المطعم وانا حر في تحديد الاسعار , وقد جاءني ولم يتبقى في المطعم سوى دجاجة واحدة , وبعتها اياه بسعر 9 الاف دينار , والفرق بينكما الف دينار واحد , وهو مبلغ زهيد ولا يستحق منك كل هذا الصياح والتجاوز ... , لم يقتنع حمزة بالجواب وتعالت الاصوات وتبادلا الشتائم والسباب , وتشابكا بالأيدي , وفرقهما الناس بالقوة , وذهب حمزة الى بيته مسرعا , ورجع الى المطعم بسرعة البرق , حاملا سلاحه معه , واطلق النار الكثيف وبصورة عشوائية على المطعم , وقد سقط صاحب المطعم مضرجا بدمائه ومات من فوره , وهرع الناس , و ولى حمزة هاربا , ورجع الى قريته النائية مع عائلته , الا ان عشيرة المقتول طالبت والد حمزة وعشيرته بالدية ( الفصل ) وبعد الوساطات والمساعي الحميدة لوجهاء المنطقة والعشائر , قررت عشيرة المقتول أخذ دية  ( فصل ) من والد القاتل  وقدره 100 مليون دينار , وباع خلف كل ما يملك من حطام الدنيا , وجمع 20 مليون دينار فقط  بعد اللتيا والتي , وبقى بذمته 80 مليون دينار ... .

وفي هذه الاثناء , حدث في عائلة الحاج عبود ما لم يكن بالحسبان , فقد اشترى محمد بن الحاج عبود جهاز موبايل لزوجته حمدية بنت خلف , وقامت حمدية بتنصيب برامج التواصل الاجتماعي في جهازها النقال , وبعد ان فقدت حمدية احساسها بالحياة وماتت كل عواطفها , بسبب الروتين والرتابة وكثرة المشاكل والمسؤوليات ؛وجدت البهجة طريقها الى حياة حمدية , ورأت عالما مختلفا اختلافا جذريا عن البيئة التي نشأت فيها والبيت الذي ترعرعت فيه , فقد شاهدت وجوه جميلة وكأن اصحابها من نجوم السينما او جاؤا من عالم الجمال , وسمعت اصوات اجمل من زقزقة العصافير وتغريدات البلابل , ورأت اجسام رياضية كأنها المرمر المصقول , وبدأت تسمع كلمات لطيفة وجذابة لم تطرق اسماعها من قبل , فصار هذا العالم الافتراضي جنتها الموعودة و وجدت فيه سعادتها المفقودة , واصبح هذا العالم الوهمي محطة استراحتها اليومية , بعد انجاز مهامها اليومية وواجباتها البيتية , فما ان يخرج زوجها من البيت وتفرغ من اعمالها المنزلية ؛ حتى تهرع الى جهازها النقال , وتقوم بتصفح مواقع التواصل الاجتماعي , فتارة تحدق في عيون هذا الوسيم واخرى تنظر بدهشة لعضلات ذاك الشاب الرياضي الرشيق , وثالثة تستمع لحوار شعري جميل بين عاشق وعشيقته , وهكذا دواليك , وبسبب هذا الادمان نست او تناست حمدية القيود الاجتماعية الصارمة والحمية العشائرية ؛ واضحت لا ترى الفوارق بين الحياة الواقعية والحياة الافتراضية وتأثير احدهما على الاخرى , واختلطت عليها الاوراق , وصارت لا تميز بين الحقيقة والوهم , والواقع والخيال , وامست تقضي لياليها بأحلام اليقظة , فتارة تتصور نفسها أميرة واخرى معشوقة لشاب وسيم غني , وثالثة وكأنها تعيش في دولة غربية لا تعرف شيئا عنها وعن طبائع شعبها ... الخ .

لم تكن تعلم حمدية بأن احلامها الوردية البريئة وعالمها الافتراضي البعيد كل البعد عن واقعها البائس , واصابعها التي تداعب (كيبورد ) جهازها النقال لتكتب تعليق ساذج لهذا (البوست ) او تراسل تلك المرأة على الخاص ... , ستتحول وبمرور الوقت الى اخطبوط واقعي رهيب يلفها في غياهب الظلمات , اذ كانت تحفر قبرها بأصابعها الجميلة وتغزل كفنها بكلتا يديها ... .

وذات يوم دخل على الخاص شاب ينبض بالحيوية والجمال والايجابية , وكان مختلفا اختلافا كبيرا عن كل رجال المنطقة الحاليين او ابناء القرية السابقين الذين رأتهم حمدية او سمعت عنهم  , اذ ينحدر هذا الشاب الوسيم من عائلة ارستقراطية متعلمة وقد تبوء ابناءها عدة مناصب حكومية وفي مختلف الحكومات المتعاقبة , وبادرها بالسلام قائلا : اسعدت مساءا ؛ وكانت هذه التحية كالصاعقة التي ضربت كيان حمدية , فلأول مرة تطرق هذه الجملة مسامع حمدية , فهي لم تسمع او تتعود على مثل هكذا تحيات ... ؛ وارتبكت من وقع التجربة , وترددت في رد السلام وفي كيفيته , فهي لم تجامل رجل غريب طوال حياتها , ولم تعش تجربة حب او صداقة قط , وبعد هنيئة , ردت عليه : وعليكم السلام , فضحك مازن قائلا : لسنا في مسجد ايتها الفتاة ... .

وفي هذه الاثناء , نادت عليها عمتها , فذهبت اليها مسرعة , وقد تركت جهازها النقال على حاله , ولم تستمر بالمحادثة او تستأذن بالخروج منها , مما افقد مازن توازنه فراح يرسل الكلمات والرسائل عبر الخاص كالمطر المنهمر , من دون الحصول على جواب , وقد اصيب بمقتل اذ لم يتعود مازن على رفض  الصبايا له , ولم يستسيغ هذا الاهمال لاسيما وانه عرف  وبخبرته الطويلة ان الفتاة ساذجة وبسيطة  , فهو زير نساء ومحبوب من قبل الصبايا , علما ان السبب الذي دفع مازن الى محادثة حمدية على الخاص , تعليق ساذج لحمدية على احدى ( البوستات) مما ولد لديه فضول لمعرفة هذه المرأة البسيطة , لأنه سأم التحدث مع بنات المدينة المتكلفات وزميلاته في الجامعة والعمل المتعاليات.

وفي اليوم التالي راسل مازن حمدية , وقلبه يستعر نارا , لمعرفة هذه المخلوقة , قائلا : صباح الورد والياسمين , فردت عليه مسرعة وبلهفة : صباح الخير , وتبادلا الكلمات والتحيات , فكان مازن يرسل سطرا من الكلمات المعسولة بينما ترد عليه حمدية بكلمة واحدة خجولة , مما زاد تعلق مازن بها ؛ فقلوب الرجال تعشق النساء المتعففات والصبايا الغاليات وتنفر من الرخيصات والمبتذلات .

ومرت الايام على مهل , على وجل , على أمل ؛  وفي كل محادثة لحمدية مع مازن ؛ كانت تكتشف شيئا جديدا , ويولد في قلبها المتعب أمل , ويداعب خيالها طموح , والى هذه اللحظة لم يعرف مازن حقيقة شعوره تجاه حمدية  او نوع العلاقة التي تربطه بها فضلا عن حمدية الجاهلة الساذجة والتي لا تميز بين الهر والبر , فهي لا تعي هذه الامور مطلقا ولم تمر بها سابقا .

لم يمض شهر على هذه العلاقة البريئة او  العلاقة الفانتازية  , حتى حامت غربان الشر في بيت الحاج عبود حول المسكينة حمدية , ودارت حولها الشكوك , وبدأت الاعين تراقب حركاتها وسكناتها , حتى وقع المحذور , فقد خرج زوجها من البيت وهو يضمر أمرا ما في نفسه , وعاد بعد لحظات بصورة خفية الى البيت , وهو يدب دبيب النمل , ويسترق السمع عله يسمع كلاما او همسا , ونظر من شباك الغرفة , واذا بحمدية منهمكة بالكتابة ومراسلة مازن , وانقض عليها زوجها انقضاض الاسد على الفريسة , واخذ جهازها النقال , وقام بضربها ضربا مبرحا حتى ادماها , وخارت قواها وسقطت الى الارض , مغمى عليها من هول الصدمة والكدمات والركلات والضربات .

عقدت عائلة الحاج عبود اجتماعا طارئا , وقررت ابلاغ خلف واولاده بما حدث , وعندما سمع خلف النبأ العظيم والخبر الخطير , ضاقت عليه الارض بما رحبت , وأمسى ينادي بالويل والثبور ويتوعد بالثأر وعظائم الامور , وصرخت الام تندب حظها العائر , وعم العويل والصراخ ارجاء البيت , وجاؤا بالمسكينة حمدية وهي مكبلة بالحبال كالخروف الذي يعد للذبح , وانهالوا عليها بالضرب والركل والسباب والشتم والبصق في وجهها البريء ومحياها الجميل , وفي اليوم التالي قرر الاب خلف , اخذها الى مكان بعيد , بالقرب من مزرعة صديقه حسن والتي كان يذهب اليها بمعية عشيقاته وصاحباته ليحتسي الخمر ويمارس الجنس معهن , والغريب في أمر خلف ومن على شاكلته , انه يرى ممارسة الجنس مع نساء الاخرين والاعتداء على الصبايا والتغرير بهن واغوائهن من دواعي الرجولة ومن الذكريات الجميلة التي يتباهى بها امام الاخرين , بينما يرى ان محادثة ابنته مع شخص في ( الفيس بوك ) عارا وشنارا لا يقبل ؛ فالعلاقة مع المرأة وايا كان نوعها في مجتمعنا , تعتبر مفخرة للرجل وعارا على المرأة , اذ لم يكلف خلف نفسه واولاده متابعة القضية ومحاكمة حمدية بروية وهدوء وعدالة وانصاف , او الاستماع اليها ومعرفة حقيقة الامر منها , فالخير في واقعنا يتطلب منا وعيا فضلا عن بذل الجهود الحثيثة بينما الشر أمره سهل وهين ومرتبط بالجهل , لذا ترانا نبادر الى الشر بسرعة ونحجم عن فعل الخير او نتردد في اتخاذ القرار طويلا .

ساقوها كالأسيرة , و وضعوها في صندوق السيارة كما الحيوانات , وذهبوا بها مسرعين الى مكان قريب من مزرعة حسن , وانزلوها وهي تبكي وتذكر اطفالها الاربعة , وتتوسل لله الواحد الاحد ان ينقذها من اجل اطفالها لا غير , وبدأوا بحفر القبر بسرعة , اذ ذهب الاب خلف وبمعية اثنان من اولاده وهما صادق و وحيد , وهي تنظر الى قبرها وتسترجع شريط ذكرياتها المريرة وحياتها القاسية , والدموع تنهمل على وجنتيها , وبعد ان انهى الاب و ابناءه مهمة اعداد القبر , اخرجوا سكاكين , وبدأ صادق بقطع احدى يديها بينما وضع وحيد السكين على رقبتها , وباشر صادق اولا بقطع اليد وكانت السكينة ( عمية) غير حادة , فصرخت من الالم , وقالت : اذبحني يا أخي اولا ثم أقطع يدي , حتى في طريقة موتها كانت حمدية مظلومة , ذهبت حمدية الى ربها وهي تشكو الالم والوجع والعوز والفقر والبؤس ... ؛ ومن عادة العشائر ان تقطع يد المتزوجة ويرمى بها على الزوج وفي هذا السلوك دلالة على غسل العار كما يعتقدون .

وبعد ايام على حدوث الجريمة نبشت الكلاب جثة حمدية , وجاءت الشرطة , وقيدت الجريمة ضد مجهول , ولم تتعرف الشرطة على هوية الضحية , وبدأ خلف بمتابعة صفحة مازن وتعرف عليه , وهدد اهله , ورضخوا لتهديداته , واعطوه دية ( فصل) ومقداره 80 مليون دينار ,  وقد اعطوا دية ايضا لعائلة الحاج عبود , الا ان خلف قد خلع ( عقاله) وقال : لا ألبسه الا بعد ان اقتل مازن , وقام اهل مازن بإخراجه من البلاد , علما ان الاعراف العشائرية تخير ولي الضحية بين القتل او الدية ؛ فلا يجوز الجمع بينهما معا وفقا للأعراف والعادات والتقاليد القبلية  الا في حالات خاصة وليست هذه الحالة من ضمنها ؛ الا ان خلف خارج دائرة المعقول والمنقول , فهو عالم بذاته , مليء بالتناقضات والجرائم والاخطاء والموبقات . 

ولعل السبب الاهم الذي دفع خلف واولاده لارتكاب هذه الجريمة , تعيير واتهام عائلة الحاج عبود لهم , او ابناء الحي لهم , فضلا عن مطالبة اهل المقتول ( صاحب المطعم ) ب بقية الدية والبالغة 80 مليون دينار .