فيما يتعلق بالكلمات، أعتقدُ أنّي أملك ذاكرة جيّدة تُمكنني من نقل أحاديث الآخرين بنفس الكلمات التي ينطقونها، لا أكتفي بمعناها العام أو خُلاصة مضمونها.
أحتفظ بذكريات قديمة جدًا عن اللحظات التي سمعت فيها بعض العبارات التي أعجبتني ثمّ صارت ضمن مفضلاتي. على سبيل المثال حين كان عُمري تسع سنوات أخذني عمّي إلى السوبرماركت ليشتري لي هدية العيد فاخترتُ كتابًا صغيرًا عدد صفحاته لا يتجاوز ٦٠ صفحة، وعلى غلافه السميك رسم جميل لوجه طفلة فقيرة، عنوانه (كوزيت).
لم أكن أعرف حينها أن الكتاب نسخة مخصصة للأطفال مُستقاه من كتابٍ ضخم اسمه (البؤساء)
مازلت أتذكر أنّ الكلمات الأولى في الكتاب تقول إن هذه القصة تحكي عن (جان فالجان) الرجل الذي ما زال اسمه محفورًا على طاولة خشبية في مدرسة قديمة. ومن ذلك اليوم إلى اليوم يستدعي ذهني صورة هذه الطاولة كلما مرّ بي اسم رواية (البؤساء) أو (جان فالجان) أو (فكتور هوجو) أرى الطاولة في ذهني وكأني رأيتها بعيني من قبل مع أنّي لم أرَها إلا في خيالي.
في كتاب (كوزيت) كانت زوجة العم الشريرة لا تتوقف عن الصراخ في وجه كوزيت المسكينة، يقول الكتاب إن العمة الشريرة حين تبدأ بالصراخ يبدو فمها مثل فوهة فرن حار تشتعل فيه النيران وينفتحُ بابه في وجه كوزيت فيلفحها بحرارته. أعجبني هذا التشبيه وعَلِق في ذهني، فصرتُ أُعلّق بصري على وجوه الناس الغاضبين حين يصرخون وأتصور أفواههم أفرانًا مفتوحة تلفح الآخرين بلهيبها.
من العبارات الأخرى التي أتذكر دائمًا لحظة لقائي بها أول مرة وإعجابي بقوة معناها، عبارة قرأتها في صفحة المشاكل والحلول في مجلة سيدتي، كنتُ في سن العاشرة، كلما عثرت على مجلة أظلّ أقرأها وأُتأمل صفحاتها لأسابيع، العبارة التي لم تُفارقني كتبتها فتاة راسلت المجلة لتشتكي من حجم قدمها الكبير، كتبت تطلب حلًا لمشكلتها وقالت: "أريد أن أجد علاجًا لمشكلتي ولو كان سمّ أفعى"... فأعجبني هذا التعبير وصرت أستخدمه لسنوات حين أُلحّ في طلب شيء بعيد، فأقول: سأحصل عليه ولو كان ثمن حيازته شرب سمّ أفعى.
من الكلمات الأخرى التي لم أنسَ لحظة سماعها لأول مرة، جملة تقول: (لا تخلّي اللي يسوى واللي ما يسوى يتكلم علينا) سمعتها في مسلسل سعودي لعائلة محمد حمزة كان يُبث بعد نشرة أخبار الثالثة فجرًا وكنت أيامها في عامي الثالث عشر... أعجبتني العبارة وشعرتُ بحاجة ملحّة لاستخدامها، وبالفعل في اليوم التالي أمرت المعلمة زميلتي بتغيير مكان جلوسها، لتبعدها عنّي حتى نكف عن التهامس في وقت الدرس، رفضت زميلتي الانتقال من مكانها، فاغتنمت الفرصة وقلت لها: قومي يا فلانة، قومي لا تخلين اللي يسوى واللي ما يسوى يتكلم علينا.. 😂😂😂 طبعًا دفعت الثمن مضاعفًا، وقضيتُ أيامًا في الإدارة أتلقى فيها التأنيب والتهديد من الوكيلة التي تصرخ عليّ فأشعر أنّ فمها فرن ينفتح في وجهي ويلفحني بلهيبه، طلبت المديرة حضور والدتي لكنّي لم أبلغها باستدعاء المدرسة، ولم يكن لدى الإدارة وسيلة للتواصل معها لأني كنت أعطي المدرسة دائمًا أرقامًا هاتفية وهمية🌚 وفي كل يوم أحضر فيه دون والدتي كانت المديرة تسجنني في مكتبها فأقف باستسلام أمام صراخها وصراخ الوكيلة، أمام الفرن الذي يلفح وجهي بلهيبه.😂