كتبها : عبدالله الصقعبي
وصف الله أهل الجنة بأنهم في شغل فاكهون , واختلف أهل التفسير في معنى هذا الشغل وهناك أقوال كثيرة تبين معنى هذا الشغل وتفسيره , إلا أنه من كمال النعيم لأهل الجنة عدم الفراغ , فحتى في الجنة , هم في شغل وعمل يتمتعون به ويتلذذون به , ولاشك أن المقاييس التي وضعها الله عز وجل لعباده في الجنة لإمتاعهم ؛ هي المقاييس الحقيقية لسعادة الإنسان , ومن المتحقق معناه في ذلك أن الاشتغال في حد ذاته متعة ونعمة ومحمدة ؛إن كان فيما ينفع ,وفي المقابل..
لم يرد الفراغ - فيما أعرف- على أنه متعة وغاية أو مكافأة ومكسب في حد ذاته , وإنما فرصة إن لم تشغلها بماينفعك أصبحت وبالا عليك ونقمة ( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ) وفي التراث غالباً مايرِد الفراغ على سبيل الذم كقول أبي العتاهية:
ما أحسنَ الشغلَ في تدبيرِ منفعةٍ . . . . أهلُ الفراغِ ذوو خوضٍ وإِرجافِ
وقد حكي عن ابن مسعود قوله "إني لأمقت الرجل أن أراه فارغا ليس في شيء من عمل الدنيا ولا عمل الآخرة", ويقول علي الطنطاوي: " لقد جربت زحمة الأعمال , وكثرة الإرهاق ,فوجدت الفراغ أصعب منها بكثير ". إن الفراغ ماهو إلا الوقت الذي بقي لنا لنملكه و نملك أنفسنا فيه،بعد أن قضينا وقت العمل مملوكين مسخرين لما نزاوله من شواغل العيش و تكاليف الضرورة.. (العقاد)
وهذا نقيض ما ارتبط في أذهان الناشئة وعوام الناس,أن الفراغ هو العدم,فيترجمونه بالنوم الزائد والكسل المفرط وصرف الوقت فيمالاينفع , متجاهلين بذلك طبيعة النفس البشرية التي لا تتقبل الفراغ , فيعيشون في قلق مستمر "..فالله سبحانه قد خلق النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن ولا بد لها من شيء تطحنه فإن وُضِع فيها حب طحنته وإن وضع فيها تراب أو حصى طحنته ,فالأفكار والخواطر التي تجول في النفس هي بمنزلة الحب الذي يوضع في الرحى ولا تبقى تلك الرحى معطلة قط بل لا بد لها من شيء يوضع فيها.."(ابن القيم)
ولربما يتبادر إلى الأذهان أنني في هذه السطور أدعو لأن تكون الحياة جادة عابسة لاراحة فيها , وليس ذلك بممكن ,وإنما أن يخضع الفراغ لتوجيه العقل فيشغله لفائدة وغاية ,فيتعلم علماً أو يكسب صنعة أو ينقب عن فكرة ,يقول أحد الحكماء: (إعلم أن الفراغ من شأن الأموات والاشتغال من شأن الأحياء، فإن قدرت أن تكون حيا فافعل) ,ولقد أدرك أرباب العمل قيمة شغل الفراغ فهذه شركة جوجل (google) أوجدت فراغًا لموظفيها بمعدل يوم أسبوعيا وحثتهم على شغله بالأفكار الإبداعية ,فنتج عنه الكثير من الخدمات والمنتجات أحدها البريد الالكتروني Gmail
وطرق استغلال الفراغ لاتنتهي , إلا أنه من الواجب أن نستحضر وقت انشغالنا تنعُمنا بهذا الشغل وتفكهنا فيه .