الحمد لله الَّذِي اسْتَدْعَى مَنْ شَاءَ إِلَى زِيَارَةِ بَيْتِهِ الْعَتِيقِ، وَحَرَّكَ عَزْمَ الْقَاصِدِ وَأَعَانَهُ بِالتَّوْفِيقِ، وَسَهَّلَ لِلسَّالِكِينَ إِلَى حَرَمِهِ مُسْتَوْعَرَ الطَّرِيقِ، وَوَعَدَ الطَّائِعِينَ بالْقَبُولِ، وَهُوَ بِإِنْجَازِ الْوَعْدِ خَلِيقٌ.

 وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فطائفة من العباد ... يطوفون البلاد شرقا وغربا،

ويقطعون الأميال همة وجِدًّا،

وينفقون الأموال طولا وعرضا

قد منَّ الله عليهم بصحة الأبدان وعافية الأجسام وسعة الأموال وفسحة الزمان...

لم يمنعهم زحام ولا خوف، ولم يوقفهم تقدُّم سنٍ ولا ضعف، ولم يحجزهم بُخل بمالٍ ولا همُّ عيال...

فتراهم يخططون ويرتبون، وعلى لذات فانية ينفقون،

يبحثون عن المتنزهات، ويزاحمون عند المتاحف والمزارات، ويقطعون الأوقات في الملاهي والمطاعم والمولات..

وأي ضير في هذا ؟؟

إنه لا ضير على من سافر آمنا على دينه ونفسه وعرضه، متفكرا في عظيم خلق ربه، داعيا إلى توحيد الله، محافظا على فرائضه...

ولكن الضير كل الضير ،  حين تتفاجأ بأن منهم من بلغ من الكِبَر عتياً ، واشتعل رأسُهُ شيباً  وما زال يُسوف في إكمال بناء إسلامه، ويُؤخر أداء ركن من أركانه.

أولئك الذين وصلهم أذان إبراهيم ، ولكن لم تصل منهم إجابة..

أولئك الذين هان عليهم السفر إلى كل بقعة إلا خير بقعة , وعرفوا كل طريق إلا طريق مكة، وسلكوا كل فج إلا طريق الحج.

أولئك الذين شغلهم الهوى عن الهدى، وصُدوا عن الخير وانقطع بهم السير، ولم يهز شوقَهُم صوتُ الحادي، ولم يُسمع قلوبهم نداءُ الداعي .

المثبطات في أسفارهم معدومة، والمعوقات مفقودة، والموانع مدفوعة إلا في رحلة الحج فسوف تقعد بهم الهمم الفاترة، وسيؤثرون المساكن الطيبة والمراتب الفاخرة، وسيذكرون عَرَض الدُّنيا، وينسون الآخرة.

أخي الحبيب:

الحج ليس أمراً اختيارياً على القادر المستطيع بنفسه وماله.

إنه فريضة من فرائض الله ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾

يقول القرطبي عن هذه الآية: "هذا خرج مخرج التغليظ، ولهذا قال علماؤنا: تضمنت الآية أنَّ من مات ولم يَحج وهو قادر، فالوعيد يتوجَّه عليه"؛ انتهى

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: ((بني الإسلام على خمس- وذكر منها - وحج البيت)) متفق عليه.

وعن أبي هُريرة رضي الله عنه قال: خطبنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقال: ((يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا))،

وثبت عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ أنه قال: (( ليمت يهودياً أو نصرانياً, ليمت يهودياً أو نصرانياً, ليمت يهودياً أو نصرانياً, رجل مات ولم يحج، ووجد لذلك سعة وخليت سبيله )) رواه البيهقي وغيره.

وقال عليٌ رضي الله عنه: "من ملك زادًا وراحلة تبلغه إلى البيت ولم يحج، فلا عليه أن يموت يهوديًّا أو نصرانيًّا".

وثبت عن الأسود بن يزيد ـ رحمه الله ـ أنه قال لرجل موسر ولم يحج:(( لو مت ولم تحج لم أصل عليك )) رواه ابن أبي شيبة.

وقد ذهب أكثر أهل العلم ومنهم مالك وأبو حنيفة وأحمد إلى أن الحج واجب على الفور إذا توفرت الاستطاعة, ومن أخره أثم وكان عاصياً.

أخي الكريم:

ومع كون الأمر بالحج أمراً مفروضاً محتماً ، فإن العبد المؤمن وهو يسلم لله قيادَهُ موعود بجزاء عظيم وفضل كبير ...

ففي بضع أيام من الصفاء والنقاء، والذكر والدعاء، والمحبة والإخاء،

في بضع أيام من التوبة والغفران ، والطهر وزيادة الإيمان

يعود المرء بجوائز عظيمة مضمونة لا يجدها في كل أسفاره...  

فعن أبي هريرة رضي الله عنه  قَالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: «مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يَرْفُثْ ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّهُ».

وعنه، قال صلى الله عليه وسلم: ((الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلاَّ الجَنَّة)) متفقٌ عَلَيْهِما.

فإلى كل من فرَّط في أداء فرضه وقصَّر، وإلى كل من تيسر له الوصول إلى البيت، فسوَّف وأخَّر؛ دع عنك الأعذار والأوهام، واترك التسويف، وأمر الحرَّ والزحام.

فلقد سار الأوائل على أقدامهم، وامْتَطوا رواحِلَهم شهورًا وأيامًا؛ صيفاً وشتاءً؛ ليصلوا إلى البيت العتيق، وفي بقاع الأرض اليوم مسلمون يَجمعون الدِّرهم إلى الدرهم، والدينار إلى الدينار، وكل مُناهم أن تكتحل عيونهم برُؤية البيت الحرام.

يا عبد الله:

 التسويف في أمر العبادة ضعف وخور ، قال الله تعالى حكايةً عن موسى عليه السلام: ﴿ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ﴾ [طه: 84]، فعلم أن تعجيلَ العبادة سببُ الرضوان"؛

وكيف يتراخى العبد ويُؤخِر ، وهو لا يدري لعله لا يستطيع الوصولَ إليه بعد عامه؟!: ﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾

ويا عبد الله: المال المدفوع في الحج مالُ طاعةٍ، وإنفاقق في سبيل الله، فلا تبخل على نفسك ..

(وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)

عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((تَابِعُوا بين الحجِّ والعُمْرة، فإنَّهما ينفيان الفقرَ والذنوب كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديدِ والذهب والفِضَّة،))؛ رواه النسائي والترمذي، وصحَّحه الألباني.

وأما المشاغل والوظائف والهموم فإنها لن تنقطع، وكل الناس في أشغال قد لا تؤمن غوائلها، وفي أعمال قد لا تحمد عواقبها ،،، والسعيد من أشغل نفسه بطاعة الله.

  كل من لاقيت يشكو دهره ...

                   ليت شعري هذه الدنيا لمن؟

وأما خوف المرض والضرر... فذلك من تخويف الشيطان وتثبيطه (إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه) وهل سلم القاعدون من مثل ذلك ؟؟

فيا أيها المتكاسلون: عما قليل سوف يُسارع المشمِّرون ويتركونكم، ويَمضي المجدُّون ويُخلِّفونكم،

ويرتحل حجاج بيت الله العتيق، وأنتم تبقون أُسارى القيودِ والتعويق.

وحتى لا يفتر العزم تذكروا قول الله تعالى :

 (( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ))

والموفق من وفقه الله ويسر له دروب الخير ..