عن النبي عليه الصلاة والسلام أنّه قال: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة" متفق عليه
مصدر المشاعر:
لا شك أنّ العقل في الأصل هو صفحة بيضاء، يأخذ أفكاره ومحتوياته من محيطه الاجتماعي والعائلي والتعليمي، وإذا أردنا تشبيه العقل فهو أشبه بالوعاء الشفاف يعكس كل ما يُفرغ فيه من كلمات وقواعد تربوية واعتقادات، ومن خلالها يفكر الإنسان في الأشياء ويحكم على المواضيع ويحلل الأحداث.
تحليلاتنا واستنتاجاتنا وأحكامنا تأتي من خلال القواعد التي تعلمناها في البيت والمدرسة والجامعة والمجتمع. لكن العقل من جهة أخرى، ليس آلة عمياء تبقى مبرمجة من طرف الغير، إذْ يمكن أنْ تتغير طريقة تفكيرنا، وأيضا أحكامنا ورُؤانا واستنتاجاتنا إذا ما غيّرنا من قناعاتنا العميقة ومن القواعد الفكرية التي تلقيناها منذ نعومة أضافرنا.
هذا ما يحدث لنا في الكثير من المرات حينما نقوم بمراجعة أفكارنا وسلوكاتنا السلبية وخاصة إذا كانت تجلب لنا انتقادات من طرف الغير . ولتطوير ذواتنا نحو الأحسن يتطلب منا إعادة قراءة أحداث كل يوم حيث، نعيد قراءة أحداث الليل والنهار من أجل تصحيح الأخطاء التي وقعنا فيها. ومن المؤكد أنّنا سوف نشعر بالسعادة إذا قمنا بشيء بطريقة حسنة، وشعرنا برضى من حولنا، فعلاقاتنا مع الناس قد تدفعنا إلى مراجعة النفس، وقد يكون ذلك ايجابيا علينا. لكن من الذي يؤثر في مشاعرنا؟
لا شك أنّ العالم الخارجي - المجتمع والناس - هو الذي يؤثر بنسبة كبيرة في طبيعة مشاعرنا. إنّنا نقرأُ في كل يوم الكثير من الأخبار السّارة والمؤلمة، نركب الحافلة فنسمع كلمات من هنا ومن هناك. نرى مشاهد وسلوكيات من الناس لا تُعد ولا تُحصى. كل ما نراه وكل ما نسمعه يُؤثر على أفكار عقلنا وعلى طبيعة مشاعرنا. سواء كان ذلك بالسلب أو بالإيجاب. وإذا كان الأمر كذلك، فعلينا أنْ نعرف ما يجب وضعه في دائرة اهتمامنا عندما نسمع ونتلقّى مختلف المشاهد والكلمات التي تأتينا من العالم الخارجي. لأنّ عقلنا مجرّد مستقبل، والقلب يتأثر لما يستقبله العقل.
يتعلق الأمر بتعويد وتدريب العقل على "الفأل الصالح: الكلمة الحسنة" كما ورد في الحديث النبوي، فوحدها الكلمات الجميلة والحسنة هي التي يجب أنْ نضعها في دائرة الاهتمام، أمّا غير ذلك فيجب أنْ يُرمى في سلّة المهملات، فليس كل ما يُسمع أو يُقرأ يجب أنْ يُدوّر في الذهن، أو يوضع في دائرة الاهتمام والتركيز، بل نحتاج في الكثير من المرّات أنْ نمارس اللامبالاة مع ألاف الكلمات التي ترِدُنا، وأنْ نمارس معها عدم ردة فعل إزاءها. ونُبْقي فقط على ما يجلب لنا الفرح والسرور.
يمكننا أنْ نوسّع من فائدة حديث "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة" ليشمل جميع الكلمات التي نسمعها ونتلقّاها من حياتنا الاجتماعية. سواء عبر استماعنا لأحاديث الناس مباشرة، أو عبر مشاهداتنا لوسائل التواصل الاجتماعي. ولأجل الوصول إلى القلب السليم المُعافى لا بد من الإعراض عن الكثير من الكلام الذي يسبب لنا ألام ، بل ومن الأفضل أن لانسمعه من الأساس لأنّ ذلك سيُرهِق عقولنا، وستُلقى على قلوبنا مشاعر كئيبة وتعيسة ومُقلقة. وأمثلة ذلك كثيرة من واقعنا، فالبعض قد يتضايق من كلمة مزعجة سمعها من صديقه ، ونجد آخر يُبالغ في تضخيم كلام صادر من مدير المؤسسة، وآخر يغتم لأنّه سمع كلاما يتردّد حوله.
لكن متى يكون لكلمات الآخرين السلبية تأثيرا علينا؟ الجواب: عندما يقوم أحدنا بتدوير ذلك الكلام في ذهنه، فينشغل القلب بتلك الكلمة لدرجة أنّ الإنسان يفقد معه كل هدوء واتّزان. والصواب: أنْ نتعلم كيف نهتم ونركِّز على الكلمات الجميلة والحسنة لوحدها دون غيرها. لأنها هي التي تعطينا معنى أجمل عن العالم وعن الحياة.
إنّ الكلام الذي لا ندخله في دائرة الاهتمام والتركيز يموت ولن يكون له أيْ تأثير علينا. فالكلمة تتغذى من مشاعر القلب ويتعاظم تأثيرها كلما ألقينا لها بال واهتمام.
ما هو الإعراض الإيجابي عن الكلام السلبي؟
- معناه أنْ لا أحيي الكلمة المزعجة والجارحة بكوني أنّي لا أغذيها بالاهتمام والتركيز.
- ومعناه أيضا أنْ أحكم على كل كلمة جارحة بالموت حين سماعها حين لا أضع لها وعاء من مشاعري لكيلا تحيا من جديد وتفرز في داخلي سمومها.
- ومعناه على نحو آخر أنْ أحرق الأفكار السوداوية بصفة نهائية بأنْ لا أحرِّك بشأنها أي ردة فعل مني.
ذلك أنّ الوسواس القهري يبدأ حينما أفكّر في الكلمة الجارحة أو الفكرة الخبيثة، وأبدأ في مصارعتها سواء بتكذيبها، أو بمحاربتها أو بمواجهتها أو حين أقوم بأي شكل من أشكال ردة الفعل عليها. لأنّه بذلك ستحيا الفكرة وتتثبّت. والعلاج الأقوى للوسواس القهري يكون من خلال عدم ردّة الفعل إزاء أي كلمة أو فكرة لأنّه بإهمالها سترحل تلقائيا.
سألت جاري وهو رجل في عمر التسعين عن سبب طول عمره فقال لي: علمتني الحياة أنْ اسمع الكلام من أذن وأخرجه من أذن أخرى.
تصوروا أنّ هذا الرجل الشيخ لا يعاني من أي أمراض جسدية، وتبدو روحه كأنّه في عمر الشباب من خلال إقدامه على المزاح والابتسامة والنكات والمشي والتسوق والرحلات.
أعرف شابا كان يعاني من وسواس قهري، أخبرني بحالته وكيف تماثل للشفاء. فقال لي: أنه كان ينشغل كثيرا بكلام الناس الذي يجرح مشاعره ويستفزه، فيردّ على كلامهم ويجادل أفكارهم ويكذبها في نفسه، وتابع حديثه : "هذا الجدال الداخلي الذي كان يحدث في نفسي كانت تتبعه مشاعر تعيسة وكئيبة، وقد دامت حالتي هذه بضع سنوات ممارسا لنفس العادة وهي الجدال الداخلي وتدوير كلام الناس الذي يستفزني. وقد انهى صديقى هذه المعاناة الوسواسية عندما أصبح لا يثير ردة فعل على كلام الناس. بل جعل كل الكلمات والأفكار المزعجة التي تتردد في داخله – والتي لا تريد الرحيل من فكره ككلاب تنبح فإذا ملّت من النباح ترحل تلقائيا.
لهذا فعندما يقول لك شخص بأنّك شخص بليد وتافه وحقير وبأنّك شخص غير كفؤ، لا يجب أنْ ترد عليه في داخلك ولا أنْ تشتبك مع تلك الأفكار، لأنّه بذلك ستحييها بداخلك، لأنّه كلما جادلت تلك الافكار واشتبكت معها وحاولت تكذيبها كلما جذّرتها في نفسك.
إنّ أقوى علاج للتأثير السلبي لهذه الأفكار والكلمات هو عدم الاشتباك معها أصلا، وعدم التحاور معها بعدم إبداء أيْ ردة فعل إزاءها، فبذلك سترحل تلك الفكرة تلقائيا، لأنك لم تعطيها وجودا وأهمية، فلا تقل في نفسك: "لماذا قال لي ذلك الشخص أنت بليد وحقير...، هو لا يعرفني على حقيقتي. أنا لست بليد ولا حقير" فبدل قول هذا الكلام والرد على ذلك الشخص في شكل حوار داخلي يجب تجنب التفكير في كلامه من البدء.
إذن، القاعدة الأساسية في شق طريق الفرح إلى قلوبنا هي: ليس كل ما يُلقى إلينا من أحكام من طرف الآخرين يجب أنْ نبتلعه ونهضمه ونحلِّله ونرد عليه. بل إنْ كان منه كلام مبشِّر ومُفرح ونصائح وتوجيهات فلا بدّ من الأخذ به، لأنه يدفعنا نحو الحياة بعزيمة قوية، ويدفعنا نحو النمو الفكري والنفسي. فهو يدخل ضمن إطار حكمة النبي عليه الصلاة والسلام "ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة". ولكن بعض الكلمات القبيحة لا بدّ أنْ نهوّن منها بمجرّد سماعها، فليس كل ما يُسمع يجب أنْ يُغربل. بل يجب أنْ لا يُؤخذ بعين الاعتبار أصلا. فمثل هذه الكلمات لا تحتاج إلى غربلة، لأنّه بذلك أعطيتها وجودا وقيمة.
فمثلما نعرف كيف نختار أحسن الألبسة ونتفنّن في كيف نبدو في أحسن حلة أمام الآخرين، علينا أنْ نعرف ونتقن فن ماذا نسمع، وماذا نستقبل من كلمات. بهذا نكون قد حافظنا على صحة أرواحنا من الداخل.
قد يتساءل أحدنا: ولكن بعض الكلمات التي قد نسمعها ، يمكن أنْ تكون جارحة وقد تصدُر من أقرب الأقربين ولا نستطيع تجنّب صوتها في داخلنا. الجواب ببساطة: هو أنّ الكلمة الجارحة عندما تدخل إلى القلب تُسبِّب له تشاؤم وتعاسة، فهي تشبه تماما الغذاء السام الذي يدخل الأمعاء، وكما لا يكون شفاء الجسم من مرضه إلا بتقيّؤ ذلك الطعام كذلك لا يتم شفاء الروح إلا بتقيّؤ تلك الكلمة.
كلمات جارحة ولكنها بغير تأثير:
يقول أحدنا معترضا : لكن في الكثير من المرّات تتسرب تلك الكلمات الجارحة إلى قلوبنا ولا نستطيع التخلّص منها بالرغم من محاولاتنا المستمرة بعدم التفكير فيها.
إذا كان الجسم يكتسب مناعته من خلال تعرضه للأمراض المختلفة، فيكون بذلك أكثر قابلية للدفاع عن نفسه ضد الفيروسات المختلفة. كذلك الروح الصلبة تكتسب مناعتها من قدرتها على تحمُّل سموم تلك الكلمات السامة والجارحة. وذلك بالتهوين من وقعها في النفس. فما دام قائلها إنسان يخطئ، ويصيب، يكره، ويحب، يقلق، ويهدأ. فلماذا علينا أنْ نأخذ كلامه بجدية؟ فكلامه يصدر من منظوره، ومن زاوية نظره، ولا يعبِّر عن الحقيقة المطلقة. ونحن نحزن بسبب اعتقادنا أنّه يتكلم عن الحقيقة المطلقة، وهذا غير معقول.
صحيح أنّ الكلمة الجارحة سامّة وضارّة. ولكن الروح الصلبة ببرودتها وعدم إبداء أي ردة فعل إزاءها، ستُحوّلُها إلى جمرة باردة تحرِق من ألقاها إنْ كان قصده الايذاء أو نيته تعكير المزاج.
إنّ الشخص الذي يتوتر عند سماعه لأي حكم سلبي عليه من طرف الآخرين، ستكون مشاعره بيد هؤلاء. حيث يمكنهم التحكم في مشاعره بمجرّد نطقهم لأيِّ كلمة. ولكن الخطأ، هو عندما تعطيهم تلك السلطة لكي يتحكموا في مزاجك، فعندما يفهمون أنك تتأثر على نحو مبالغ فيه بكلماتهم سيستغلون هذا في التلاعب بمشاعرك.
والمؤكد أنه سوف يزول وقع أحكامهم وكلماتهم عندما يتيقن الإنسان أنّ كلامهم ليس وحيا إلهيا، وليس هو الحقيقة المطلقة. فأغلب كلام الناس لا يعبّر إلا على أمزجتهم، وأنّ الكلام والتكلم هو بمقدور كل الناس، فأي شخص يمكن أنْ يتكلم عن أيّ شيء. من هذه الزاوية يمكن إطفاء الكلمات الخبيثة ببرودة فعالة دون أنْ إبداء أيّ ردة فعل داخلي أو تأثّر عاطفي وجداني.
برودة الأعصاب هي سلاحك الفتاك الذي سيجعلك شخصا غير مرغوب فيه بالنسبة لهؤلاء الذين يفرحون بجُرح مشاعر الغير. أمّا إذا كنت إنسانا سريع التأثر بكلامهم، سيجعلك شخصا مستهدفا لكل من يريد أن يعزف على عواطفك. فقابل تلك الكلمات بالبرودة، وبالتحمل وسيفرُّ منك كل هؤلاء. وحده الكلام الحقيقي الصادر من كلام الله ورسوله، وأيضا كل كلام يريد لي الخير (والداي وأستاذي) هو الذي أجعله سلطة على قلبي وعقلي، أمّا غير ذلك فلا يجب أنْ نأخذه بمحمل الجد.
تحرير الروح:
لعل التربية الاجتماعية والعائلية لها دور كبير في غرس بعض القناعات الخاطئة عند الفرد، حيث تتحول لديه مع السنين إلى قواعد وطرائق تفكير. من تلك القناعات: فكرة الطيرة أو التطيّر: وهي التشاؤم من الأشياء والأحداث، وخاصة تلك التي تتعلق برؤية قط أسود أو شخص أعرج أو أعمى...بالاعتقاد أنّ رؤية هذه الأشياء ستحدد مصير الإنسان ويتبخر النجاح والتوفيق.
وتنتشر في ثقافتنا العربية والإسلامية مجموعة من الأفكار والاعتقادات الخاطئة التي تنشر التعاسة والكآبة والتشاؤم. من هذه الاعتقادات وعلى سبيل المثال: الإيمان بشؤم الأيام. وقد حكى لي صديق عن تأثير الخرافات على شعوره بالتعاسة والكآبة فقال : أنه عندما كان صغيرا تعرّض لحادث سيارة وكان يومها موافقا ليوم الثلاثاء، وبعد مرور سنوات عديدة من الحادثة، تساءل ماذا لو بين يوم الثلاثاء والشؤم علاقة ما.
كان هذا السؤال، سؤالا تطيُّريا خاطئا من الأساس. لذلك بدأ صديقي يركِّز على يوم الثلاثاء وما يحدث فيه من حوادث ومن أمور غير سعيدة، ويتجاهل بقية الأيام وما يحدث فيها.
استمر صديقي على عادة ربط يوم الثلاثاء بالشؤم وعدم التوفيق. إلى أنْ وصل إلى حالة نفسية مضطربة لم يكن يعرف مصدرها، ومما زاد هذه الحالة متابعته لبعض الأفلام والمسلسلات الهندية التي يعرض مخرجوها الكثير من اعتقاداتهم الشعبية والدينية ومنها على الخصوص أنّ البطل يشعر بحدس خارق بأنّ شيئا ما يحدث لحبيبته في هذه اللحظة ، أو أنّ الأم تشعر بأنّ مكروها وقع لولدها عندما ينكسر أمامها شيء ما، أو عندما تهب ريح قوية وعاصفة التي قد تُنبئ بأنّ هناك خطب ما. وكان يعزِّز الخرافة لدى صديقي، عندما كان يشاهد انواع أخرى من الأفلام الأمريكية التي تعرض قصصا حول تنبؤ أشخاص معينين بحوادث موت قبل وقوعها بمدة.
وقد تشبّع صديقي أيضا بالثقافة الهندية حيث اطلع على كتب ومحاضرات حول اليوغا والطاقة والرياضات الروحية... المأخوذة من الهندوسية والبوذية حيث كان يهدف من وراء فضوله ذاك إلى تنمية الحاسة السادسة لديه. ولكن للأسف، كل تلك المعارف الروحية الشرقية والأفلام الغربية لم تصل به إلى معرفة حقيقية ويقينية . بل بالعكس من ذلك تماما، لقد أصبحت تخيفه الأشياء، فعندما يرى قطا أسودا في طريقه يتوقع من خلاله أنّ هناك شيء خطير سوف يحدث له، وعندما يرى الجو ممطرا، يقول في نفسه: بأنّ هذا اليوم لن يكون موفقا. وعندما يرى إنسانا أبرصا يشعر بالكآبة والتعاسة. ومن خلال تلك العلاقة التي ربطها بين يوم الثلاثاء والشؤم، والاعتقاد بتوقعات الحاسة السادسة، تكوّن وترسّب لديه تفكير سحري وهمي أثار لديه الخوف واضطراب الشخصية أثر في حياته كثيرا.
وأخيرا وقعت بين يديه حكمة نبوية أخرجته من هذا الخوف والاضطراب وحولته إلى إنسان آخر وهو حديث: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل الصالح: الكلمة الحسنة" و بذلك تمكن من التخلص من تفكيره الخرافي والسحري.
هذا الحديث حرّر صديقي من الخوف والاضطراب الذي كان يعاني منه طيلة سنوات. ذلك أنّه لما بحث عن مصدر خوفه وجد أنّ مصدره يعود إلى إيمانه بالتطير بيوم الثلاثاء وبالأشياء التي يعتقد أنها تحمل الشؤم، وإلى ادعاؤه بوجود معرفة خاصة بحاسته السادسة.
هذا الحديث النبوي جعل صديقي يدرك أنّه كان يتوهم ويتخيل. وفعلا بدأ الخوف الذي لم يكن يعرف سببه في البداية يزول عندما عرف وتيقن بطلان المعارف الخرافية، ووصل إلى نتيجة: أنّه لا شيء أخطر على عقل الإنسان من تصديق معرفة خرافية تحدد تفكيره ورؤيته للأشياء.
القول بوجود الحاسة السادسة التي تعني معرفة الغيب، أو الشعور بكيفية وقوع الأحداث قبل وقت حصولها هو مجرّد إدّعاء وتوهم. فليس هناك إلا خمس حواس وهي: السمع، والبصر، والشم، والنظر، واللمس. فكل معرفة تصدر من الحاسة السادسة ليس إلا معرفة ظنية وتخمينية وخاطئة ليس لها أي أساس من الصحة، فلا يعلم الغيب إلا الله. أمّا إدّعاء بعض الناس أنّ لهم حاسة سادسة تمكِّنهم من التوقع والتنبؤ فليست إلا هواجسهم ومخاوفهم التي قد تحدث وقد لا تحدث، حتى النبي عليه السلام لا يعلم الغيب فكيف بأناس عاديين.
إنّ تهيئة شروط الفرح في القلب والعيش في اطمئنان مستدام لا يجب أنْ يقوم على معارف ظنية: كالتطيُّر بالأيام، والاعتقاد بوجود حاسة سادسة تمكنني من التوقع والتنبؤ. ذلك أنّ انكسار صحن أمامك لا يعني بالضرورة أنّ حظك محطّم، أو أنّ مشروعك المستقبلي سوف ينكسر، وإذا ما هبت عاصفة نحوك لا يعني بالضرورة بأنّ يومك سيكون تعيسا وعاصفا.
المعرفة التطيرية والمعرفة الناتجة من الاعتقاد بوجود معرفة خاصة بالحاسة السادسة: تؤسس معارفها على القول بوجود: تماثل وتشابه بين الأشياء والمعنى المُتوقّع، حيث يتم الربط الوهمي بين انكسار الكأس وانكسار الحظ. أي أنهما متماثلان ومتشابهان في الدلالة. هذا الربط غير منطقي وغير عقلي. فما الذي يربط بين رؤية قط أسود ونجاحي أو فشلي في مسابقة التوظيف، أو بين رؤية شخص أعرج ومدى نجاحي في مشروعي الاقتصادي.
والكثير من الناس قد يكون سبب خوفهم المرضي في أحد أسبابه يعود إلى تلك الاعتقادات الخاطئة التي يعتقدونها في شؤم الأيام والأشياء، واعتقادهم أنّ لهم حاسة سادسة. فإذ أردنا الفرح في حياتنا علينا أنْ نتحرر من التطيّر وهو أنْ نفكِّك العلاقة التي نربطها بين الأشياء التي نعتقد أنّها تجلب الشؤم وبين قدرنا ومصيرنا. إنّ مصيرنا نصنعه نحن عندما نتوكل على الله، وقدرنا نصنعه نحن ضمن إرادة الله التي تفعل ما تريد.