بضع سويعات تبقت على رحلتي ... يا إلهي [لا أنا قد الشوق و ليالي الشوق و لا قلبي قد عذابه] .. لا أقوى على فراق هذه المدينة الساحرة. لم أتعلق في حياتي بمدينة كما تعلقت بلندن العظمى. كم هي الأيام تمضي سريعاً فيها، ثلاثون يوماً مضت في لمح بصر. تلك المدينة العريقة التي شهدت كل شيء، و مر بها شتى أصناف الناس من شتى الجنسيات و الأعراق و الأديان، و تلاقى فيها ألف ألف عاشق، و قُبِّل فيها ألف ألف ثغر، و ضحك فيها ألف ألف سعيدِ حظ، و بكى فيها ألف ألف محزون. تلك المدينة التي تشهق الروح في حدائقها ... ماذا أقول أم ماذا أقول؟ .. تلك المدينة التي لا يعرف العرب منها إلا شارعين و حارة، و رغم ذالك مفتونون بها. تلك المدينة التي يغازل فيها المطر رمق الروح و يبعثها كما خلقها خالقها ،تلك التي يُرقص على أصوات ضجيج سيارتها و أصوات إسعافاتها، تلك التي اذا هبت نسائمها إنحلت كل عُقَدِ الضيق، تلك التي مبانيها تبعث عبق الماضي العريق، تلك التي اذا ظللتها أشد سحائب الدنيا سواداً تزال تضحك كالأطفال. تلك هي لندن التي أعرف.
كم من عشّاقٍ عرفناهم و لم نعرف نهبهم الحب صفو الأيام في لندن، كم غنى هوى لي هاهنا في لندن، كم كتمت هذه المدينة أسراراً و أسرار و كم سرحّت منها. قد يآلف الفتى منازل كثيرة لكنه يحن دائما و يصبو دائما إلى لندن.
أذاكرةٌ يا لندن "ازاي ازاي اوصفلك يا حبيبي ازاي" مفترشين بساطك و ملتحفين غيم أُنسك؟ أذاكرةٌ أحاديث الندامى بين أعتق بيوتك؟ أذاكرة أنفاس شيشتنا و رقصنا و مغنانا و ضحكنا و جمعتنا بين أحضانك؟
أذاكرةٌ الصلاة و الدروشة و المدائح؟ أذاكرةٌ أحوالك العجيبة؟ أذاكرةٌ القهوة و الباريسية و الجرائد و الإلحاد؟
أذاكرةٌ قطاراتك المزعجة التي يمسي صرير عجلاتها طرباً يوم فراقك؟ أذاكرةٌ ديسباسيتو؟
تمر الدقائق سريعةً جداً، هاأنا نصف ساعة على الرحيل، أحتار كثيراً فيما أشعر، هل أطلق العنان لحزن الفراق؟ أم أطلق العنان لحنين العودة؟
كم هي جميلة في آخر الليل، كفيلم انجليزي قديم او وثائقي عن الحرب العالمية ... هادئة و نائمة تستعد للضوضاء مدينية مع أول ساعات الصباح ... قطرات الندى على نوافذ السيارة و فيروز [اذا ما بكينا ولا دمعنا ... لا تفتكروا فرحانين] ... السفارة السعودية تبرق في الليل كما النجمة .. ماي-فاير، بعمائره المبهرجة نائم، لا تبختر، لا سيارات فارهة، لا رجال أعمال بملابس مهندمة، لا عرب باذخين، لا شيء، سوى صوت إيقاع المطر..
تباً لكي يا سائقة السيارة سارة! أفسدتي لحظات وداعي بحديثك عن حادثة هارودز!
رويداً رويداً بدأ العمران الفيكتوري يختفي ... فتظهر البيوت العملية الأكثر منها جمالاً، و تُبَدلُ الأحجار البيضاء و الرخام البرّاق الى طوبٍ أحمر و نوافذ رمادية قبيحة ... رويداً رويداً تتسع رُقَع الأشجار بين البيوت، و تبدأ الكباري التي لا مكان لها في قلب لندن بالظهور.
ذهبت الأرصفة العريضة الفضية و حلت محلها أرصفة سوداء ضيقة ... خرجنا من محبوبة القلب إلى الطريق السريع .. هاهو الريف الإنجليزي يتجلى على ضفاف الطريق. السماء سوداء ثقبية و كل مظاهر التمدن في اضمحلال. لا شيء إلا سواد شجر و سواد الليل.
هاهي اللوحة البائسة الزرقاء تكتب إسماً كان بشير أُنس "هيثرو"، هيثرو الأحلام كما يحب ان يسميه الوالد .. مرحباً بك في هيثرو!
آخر سيجارة على هذه الأراضي الطاهرة، آخر النسمات الفردوسية الباردة، [نظرة و كنت أحسبها سلام ... و تمر قوام] ... وداعاً لندن استودعك عند من سوّاكِ ... تركت فيكِ شهادة أنك أجمل مدينة و أن لا يهوى القلب إلا أنتِ ... وداعاً
٥:٤٥ صباحاً،٣ أغسطس، ٢٠١٧، لندن هيثرو