Image titleالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لقد خلق الله الكون وفق سنن ربانية لا تنحاز ولا تشفع لـمن يتخلف عنها، وفق نظم مضبوطة تامة النواميس، قال تعالى {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)}سورة الأحزاب وأشارت الإرادة الربانية إلى البشر لحذوها والاقتداء بها في كل تصرفاتهم.
إن وضع الأمور في نصابها سنة كونية، نلحظها في كل مقادير الله فيه، لا يتخلف عنصر عن وقته ومكانه وصاحبه قال تعالى {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)} سورة الأحزاب، وقال تعالى {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)} سورة الفتح.
إننا مدعوون لتمثله في كل ما نأتي وما ندع، بل ونتهم أنفسنا إذا أصابتنا عقوبات التخلف عنه.
لا يمكن لعاقل أن يتهم غيره إن صدر منه خلاف الأولى، إلا من سفهت نفسه وطغى وتجبر.
هذا ما نلحظه في كثير من تلاميذنا وأوليائهم في المؤسسات التعليمية التي ليست في منأى عن سنن الكون من النظام والانضباط الميداني على الأخص، لأن النتائج التي يبتغيها المسيرون ويأملها الولي وينتظرها التلميذ لن تتأتى بدون حزم مع المسائل الانضباطية، والوقت، والمواد، والوسائل، وغيرها مما يتطلب الضبط النفسي والمعنوي والمادي والإداري.    
لا يعني هذا الكلام أن تصبح المؤسسة التعليمية معسكرا أوثكنة فيها الأمر والتطبيق فقط، لكن  الجوانب الإنسانية المتعامل بها مع المتربي لن تنجح دون تحديد مسارات مضبوطة هي كذلك.

إن على التلميذ أن يعي ويدرك أن تواجده في المؤسسة إنما لحصد النتائج، وهو نتيجة آمال الوالدين،  وجهود المؤطرين، وطريق ذلك الالتزام بكل التعليمات الداخلية.

ولو انحصر الأمر في التلميذ لأنه غر شاب صغير لهان وسهلت المهمة، لكنني ألحظ صعوبة ضبط ذهنيات وسلوكات التلاميذ عند القائمين على معظم المؤسسات التعليمية بسبب تدخلات غير مبررة للأولياء، خاصة إذا تعلق الأمر بمخالفات اقتضت عقوبات وإحالات على المجالس التأديبية.

لقد شعرنا في كثير مناسبات بإحراج شديد يوقعه علينا أولياء يبررون مخالفات أولادهم، مع ثورتهم ضد العقوبات المسلطة، أوالحرمان من الغش، أوالحزم التام في القاعات والساحات والأروقة، علما أن زياراتهم للمؤسسات قصد متابعة تمدرس أولادهم قليلة جدا ، أما إذا حدث رسوب أوفصل من الدراسة أوعقوبة تأديبية تراهم يغدون ويروحون لإنقاذهم من الورطة.

ولو التزم الأولياء بالنظام العام لتجنبنا الكثير من المخالفات بسبب امتثال القانون الذي لا يشفع معه الولي، لكن التلميذ المعاصر وجد ضالة تهربه من الالتزام والضبط، بفتح وليه مجال الجموح.

لقد ابتلينا بمجتمع عطل كثيرا مفهوم الانتظام السلوكي، ما إن يقضى بعقوبة في حق تلميذ إلا وتجد الولي يجري في كل الاتجاهات لإبطال مفعولها بكل الوسائل والأساليب المتاحة خاصة استعمال المعارف الشخصية التي استشرت في زماننا.

ما إن يمنع التلميذ من تصرف مضر بقيمة العلم على سبيل المثال كالغش إلا وتجد الولي يعتبره حقا لابنه فينافح بكل صرامة ولو تجنبا للفضيحة.

مع تهديدات كثيرة منهم بعد ذلك.

وما بروز الاعتداءات المختلفة على المسؤولين والأساتذة إلا دليل على تيسير السبل المعنوية بسبب غياب الردع وتنفيذه.          
وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى سيل من التهم لـمسؤولي المؤسسات وأعوانهم المخلصين الأعضاء في المجالس وغيرها، بعد أن يكونوا قبلها من خيرة الناس في انطباعهم.

تجد الأستاذ أوالمراقب أوأي عون في مؤسسة يرمق إليه بعين الرضا فإذا منع غشا أوتهاونا أولباسا قبيحا أوقبعة أوكلاما بذيئا أصبح في العين نفسها مسخوطا عليه.

تلميذ تشاجر يدويا مع أستاذين لحرمانه من الغش، فأحيل على مجلس التأديب الذي رفق به وطالب بتحوله إلى مؤسسة أخرى عوض طرده من التمدرس نهائيا فسخط وليه، معتبرا الأستاذ الحارس هو من ضربه واساء إليه.

إن في مجتمعاتنا من يريد الرضا عن ذلك الساكت عن الأخطاء، تريد رؤية غاض الطرف عن المساوىء وتسمه بالمؤدب أوالعاقل أوالهادىء المقبول اجتماعيا، أما المجاهر بمقاومة مخالفات التلاميذ والحريص على تربيتهم فمرفوض يمجه المجتمع المريض.

وانقلب النص القرآني على رأسه عند هؤلاء، قال تعالى {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)} سورة التوبة

وكما قيل : المحايد من يسكت عن الباطل لكنه يخذل الحق.

إذا تدخل منتبه من المؤطرين التربويين انهالت عليه التوبيخات من مرضى النفوس مظهرين له بكل وقاحة ونفاق حرصهم على سلامته من الأضرار الناجمة عن تدخله.

فأصبح الرضا بالمنكر منفعة وإنكاره مضرة.

كثير من المبادرين إلى الخير في المؤسسات التعليمية ممقوتون من قبل المجتمع حتى استحال الأمر إلى مهنة للتعليم فقط لا للتربية.

نهيت سنة 1991 في قاعة تدريس أحد التلاميذ عن إظهار العقد فوق لباسه، فجاءني والده مستنكرا تدخلي في أمره لولا أنني خيرته بين أن نتحدث في مهنة التعليم فقط أم في مهنة التعليم والتربية فاختار الثانية فاستطعنا التفاهم.

مجتمع يصف أهل التعليم والتربية بكل الأوصاف القبيحة إن وقفوا في أوجه الشر والفوضى الفكرية والمادية.

مجتمع يكثر من الضغط على الأساتذة والمعلمين بعد تنظيم الاختبارات لتضخيم العلامات لأبنائهم الضعفاء إنقاذا لهم من الإعادة أوالفصل من الدراسة، عوض الحرص على تمدرسهم واعتنائهم بأعمالهم قبلها.

ما إن تحدث مخالفة وينعقد المجلس التأديبي ثم يقرر العقوبة المناسبة إلا وتنفجر ثائرة الأولياء مع الضغط الكبير على القائمين في المؤسسات لإلغائها.

كل هذه السلوكات دليل على إعاقة المجتمع لحركة التطور العلمي والتربوي والانضباطي.

بادرت في أحد المواسم الدراسية بتحفيظ سورة البقرة للتلاميذ بالتدرج عبر أيام السنة كعمل زائد على البرنامج السنوي في مادة العلوم الإسلامية فوجدت معارضة شديدة من شرذمة أولياء أحسست معها بإعاقة المجتمع لكل ما يصلح قطاع التعليم في بلادنا.

سلوكات تثير الامتعاض والانفعال الشديد، والحنق الخانق، تزيل من الذهن كل ما قدمه أهل التعليم من بذل ووسع لهؤلاء الأولاد، تصرفات تنبىء بنكران جميل من أنطق هؤلاء الأولاد بعد صمم في اللغة والحساب وغيرها، سلوكات تنبىء عن عداوة مسبقة مع رجل التعليم، وكأن أول ما تهيأ لكثير من الأولياء هو الحذر من أهل التعليم على أولادهم.

ضحكت على شيخ كبير ذات يوم عندما وصف لي أستاذا كان يحرس ابنه في امتحان ولم يتركه يغش بعبارة {حاسد}.

مجتمع اعتبر الغش في الامتحان، والخروج عن القانون، وإهمال الالتزام، وتضخيم العلامات، وترك المعاقبة جراء المخالفات، حقا مكتسبا لا جرما مرتكبا.

حتى اعتبرت إعادة السنة الدراسية، ولو بتضييع الـمعدل المانح لها حقا لا امتيازا مخالفة للقانون في ذلك.

كل هذه الانطباعات وغيرها قلبت الطاولة في كثير من الـمؤسسات على مسؤولي التعليم من قبل الأولياء.

وإذ أسرد هذه النماذج والتحاليل فلأنني أرى أن أسبابها تكمن فيما يلي:

1 / شراء السلم الاجتماعي : بعد الهزة التي ضربت أوصال البلاد وما كادت تنتهي حتى أتت على الـمجرم والبريء، ولأن آثارها لا تزال جاثـمـة على صدر الوطن، وكي لا تتفاقم على يوميات فردياته نلحظ من حين لآخر غضا متعمدا للطرف عن كثير من الـمخالفات خارج وداخل التعليم تجنبا لأي منزلقات قد تعيد الوضع الاجتماعي إلى سابق انفجاره.

2 / اعتبار التعليم حضانة أولاد : كثير من أسر الـمجتمع الجزائري والأمهات بالأخص دأبوا على اعتبار مؤسسات التعليم وقاعاتها ومختبراتها مجرد ملاجىء حضانة تريحهن من عناء النصب مع الأولاد، فإذا فوجئوا بالأمر لم يتقبلوا صبغ الأولاد بالتهمة خشية الطرد ما يعني العودة إلى البيت لمزيد من المتاعب داخله.

3 / ازدراء قيمة التعليم والعلم : مع أفول نجوم العلم والعلوم والبحوث تضعضعت قيمة العلم والتعليم مما أفقده الهيبة الـمنشودة، فسهل التمرد عليهما، فقزم التلاميذ والـمجتمع مكانة الضبط والالتزام كسبيل لا مناص منه لتحصيله.

4 / الاستخفاف بقيمة الأستاذ : ونتاج امتهان العلم والتعلم هو تقزيم الأستاذ، بعد عقود كان الناس يقدسون رجل العلم والتعليم والتربية، أما الآن وقد تشعبت أهداف الحياة ونواحيها ووسائلها وأساليبها وأصبح الأستاذ فرعا منها يستغرب الفرد الـمعاصر اعتباره شيئا رئيسا فيها.

5 / استصغار الأستاذ نفسه بين الناس : بالإكثار من مخالطة الـمجتمع والتواضع غير المحدود وغير المضبوط، إذ ليس كل الناس يدرك منزلة التواضع وصاحبه، فمصاحبة التلميذ في الشارع وتمكينه من الاطلاع على بعض الخصوصيات لا يتيح السيطرة عليه بعد ذلك في حجرة الدراسة، والتصرف مثل العوام خارج نطاق الدرس، أوالإكثار من مداعبة التلميذ حتى داخل المؤسسة، أوغياب  معاني الـمثقف، أو غيرها من الـمظاهر التي تفقد تلك الرمزية الروحية، قمن أن يزيل قيمة العلم لديه، والأمر يقاس تماما على كل مسؤول فيه من على رأس الهرم إلى قاعدته.

لكن إذا عكسنا شريط الأحداث إلى الخلف عاد إلى أذهاننا ذلك الأستاذ الـمتعفف خارج قاعة الدرس جليل الجانب يحمل بين جنباته مجد العلم ومكانته، فإذا لقيه مريدوه أنصتوا إليه بإذعان وشوق.

6 / تفضيل المال والمادة والتجارة على منتجات العلم والتعليم : لما يراه الناس من حالة مادية ضعيفة لأهل العلم، فلا يتمنى أحد أن يكون محلهم كي لا يكون مصيره كمصيرهم، لذلك ينصرفون عن متابعة العلم لانعدام الفائدة الـمـادية في اعتبارهم، وينصرفون من الانقياد إلى الإِباء.

7 / اعتبار العلم مرحلة عابرة لا أساسية : كالعوام الذين توهموا أن الإنسان عليه تحصيل أقل درجات الـمعرفة لتحصيل القراءة والكتابة فقط، والواقفين من الـمرأة موقف الـمتوجس الذي لا يسمح بتمدرسها بعد مرحلة الابتدائي، والـمنتظرين فرصة التجارة، وأصحاب التدين الـمغشوش الذين لا يرون في الجامعات ملجأ علميا ذا ثقة، واليائسين من اعتلاء مناصب في الدولة بسبب الكواليس غير العلمية، فلا يرون منصرفا لإتمام الدراسة.

كل هذه الحالات معبرة عن اعتبار  التمدرس مرحلة عابرة فقط، وبواسطتها لا يعبأ التلميذ ووليه بالصرامة لأجل التحصيل.

8 / عدم حماية الـمؤطرين والـموظفين التربويين : كثير من الحجاب على أبواب المؤسسات، والـمراقبين والأساتذة وحتى بعض الـمديرين وجدناهم لا يكترثون بتصرفات التلاميذ ويتجنبون الاصطدام بهم لأنهم حسب تصريحات الكثير منهم غير محميين لو حدث لهم مكروه منهم، وهو ما انتبه إليه الأذكياء منهم فاستعملوه ضد وقوف الـمؤسسات على أعمدة ثابتة.

9 / التحريض غير المباشر: إن الترويج الـمتعمد لانخفاض مستوى التعليم من قبل خارجين عن نطاقه، والتهويل الكبير من قبل الـمؤسسات الأجنبية التي يروج لعدم اعتبارها قيمة الشهادات الـمحلية ومنها البكالوريا ألقى في روع الناس عدم احترام رجل التعليم مما سيب الأوضاع وأدى بشكل آلي إلى مشاكسة ظاهرة.

وقد تكون هناك أسباب أخرى غفلنا عنها يمكن لـمن تفضل بقراءة هذا الـمقال أن ينيرنا بها.

ولذلك تولد عن هذه الأوضاع نتائج كثيرة نجملها فيما يلي:

1 / التسرب المدرسي : إن التلميذ الغر يتهيأ له أن التساهل معه من قبل أي مؤطر هو ما يروق لنفسه لكنه لا يدري أنه منصرف إلى إخلال ببرنامجه والـمآل هو التضحية بنتائجه.

2 / الإهمال الدراسي : إن التسيب في فرض الانضباط والتطرف في النأي عنه يلقي في روع التلميذ ضمان الإفلات من العقوبة فلا يزيده إلا إهمالا وخاصة في غياب التفقد الدوري للأولياء.

3 / تخريب التجهيز : بناء على هذا وفي غياب الصرامة في التعامل مع التعليمات والقوانين واللوائح سهل على التلميذ تخريب التجهيزات المختلفة ومن بينها التماطل الكبير في رد الكتب الـمعارة وأحيانا إهمالها لأن الإفلات من العقوبة مضمون، و ذود الأولياء جاهز.

4 / تخلي الـمؤطرين عن أدوارهم : إذا حدث كل هذا فإننا لن ننتظر حزما ولا تطوعا من أحد في الـمؤسسة التربوية لأن الحماية الـمادية والقانونية منعدمة.

5 / دخول الأجانب : من نتائج التسيب القانوني ثم تخوف الـمؤطرين وعلى رأسهم الحجّاب في الأبواب تسلل بعض الأجانب إلى الـمؤسسات دون رقيب.

6 / انعدام هيبة الـمؤسسة : وفي النهاية يأتي هذا الوضع على هيبة الـمؤسسة التي تضيع بين طيات هذا التيهان.

ولذلك أقترح مايلي:

1 / إعادة بعث القوانين المسيرة للمؤسسات.

2 / استعانة الوصاية بأعوان السلطة لتجسيد هيبتها، ولو مؤقتا.

3 / إصدار التعليمات الصارمة لتنفيذ ما سبق.

4 / إعادة التأكيد على سلطة الـمجالس ومنحها السيادة الكاملة في تنفيذ القرارات.

5 / انسحاب الوصاية من استقبال طعون الأولياء في قرارات الـمجالس.   
6 / إذا كان ولابد فالـمصادقة الفورية على قراراتها دون تغيير.

7 / تعفف الوصاية عن إرسال الأوامر بتنفيذ مايخالف قرارات الـمجالس كالإذن بالإعادة للمفصول .

8 / تنظيم حملة إعلامية توعوية واسعة النطاق لفائدة الأولياء لفهم التعليمات والقوانين والخضوع لها، وفائدة ذلك على مستقبل تمدرس أولادهم.

9 / منع زيارة الأولياء للمؤسسات بعد تنظيم الاختبارات وتأجيلها إلى ما بعد توزيع الكشوف.

10 / منع تهديدات بعض الأولياء اللاحقة بأي مؤطر في التعليم ، وإلحاق أقصى العقوبات به وبولده عن طريق التقاضي.

11 / تنظيم الدورات التدريبية للتلاميذ في هذا الشأن.

12 / التكوين الـمتواصل بالتدريبات والـملتقيات للأساتذة في كافة الـمجالات بما فيها الـمجال الاجتماعي.

بهذا يمكن في رأيي ضمان تعليم ذي قيمة وهيبة تصب في صالح التلميذ، لأنه بحكم مراهقته وصغر سنه لا يدرك أن في الصرامة ضالته من الدراسة والهدوء والنجاح.

وبذا يمكن للسلطة تدريب الأولياء على التزام الحدود الـمسطرة في التعامل مع أطر التعليم والعلم ضمانا لتمدرس ناجح لأولادهم.

وبها يمكن للأولياء فهم  وهضم علاقة الأبوة بين الأستاذ وتلميذه مع علاقة البنوة بين التلميذ وأستاذه.