- علي المجنوني
يبتعد الخطاب النسوي عندنا شيئا فشيئا عن افتراض وجود فئة متجانسة تدعى "المرأة" تتّحد مطالبها وتتفق رغباتها بغض النظر عن السياق الموجودة فيه.
إذ تظهر دعوات ترمي إلى رفض تجانس الخطاب وفسح المجال أمام التعددية في الخطاب، وتلتفت إلى الظروف التي تشكل واقع المرأة من دون افتراض تجانسها.
لكن الخطاب النسوي يُغفل أو يكاد مناقشة الذكورة، وهو أمر أراه مهما لأكثر من سبب:(١) خطاب الذكورة هو الخطاب الذي يحدّد الخطاب النسوي نفسَه ضده
(٢) لأنه يتيح فرصة لفهم علاقات القوة التي تحدد الجندر، وتصون تلك العلاقات وتعيد إنتاجها ضمن نظام يسيّس الجندر.
وما هذا إلا أسّ الخطاب النسوي. (٣) أنه بدراسة الذكورة تبتعد النسوية عن الثنائيات التي طالما أرهقت الخطاب الجندري عموما وحدّت من نجاعته.
عمدت النسوية إلى تمحيص الافتراضات الشائعة في الخطاب الجندري، فكان أهم نجاحاتها يتمثل في مناقشة مفهوم الجندر باعتباره بنية أو بناء اجتماعيا.
وبالنظر إلى هذا المفهوم تكون الرجولة والنسوية فئات أو صفات اجتماعية، تبتعد في نسبها بناءً على التمايز التشريحي لجسد كل من الرجل والمرأة إلى تمايز آخر أكثر غموضا وتعقيدا وأقل اعتمادا على الطبيعة. وهذا ما يجعل سائر الفئات الجندرية فضفاضة ومتغيرة تاريخيا وجغرافيا ومرتبطة بالثقافة.
لقد أزاح مفهوم الجندر افتراضات طالما عُدّت مسلمات ومرّت من دون مساءلة، خاصة ما كان يفترض منها أن هناك سمات فطرية متأصلة تختلف اختلافا جذريا بين الرجل والمرأة، وتُملي رغباتِ كلّ جنس واهتماماتِه، وتحدد بالتالي مكانة كل من الرجل والمرأة (وغيرهما) في مجموع العلاقات الاجتماعية السائدة
إذن أخذت النسوية مناحي عدة في سبيل فهم التطفيف الجندري، أسبابه ووسائله ونتائجه، لكن تلك المناحي تعتمد على الحطّ من أهمية الجندر باعتباره المحدد الرئيسي للعلاقات الاجتماعية بمعاونة المؤسسات المختلفة: الدولة، النظام الاقتصادي، الدين، العائلة إلخ. بعد هذا القول يكون من غير المجدي —في تصوري على الأقل— الحديث عن الجندر من جهة المرأة فقط. وحريّ أن تُدرس الفئات الجندرية على تنوعها واختلافها لأنها شديدة الصلة ببعضها.
العمل على تحدي الهيمنة الذكورية وتحقيق الإقساط الاجتماعي لن ينجح تمام النجاح من دون مساءلة الذكورة والخيال الذكوري على سبيل المثال.
علينا تحدي التسليم المطلق بأن الإيديولوجيات الثقافية فضّلت الرجل، فعكست المؤسسات الاجتماعية هذا التفضيل، واستفاد منه الرجال كمجموعة اجتماعية لأن الرجل، مثله مثل المرأة تماما، ليس فئة جندرية ثابتة ومتجانسة. وافتراض وجود فئة متجانسة تدعى "الرجل" يجيء على حساب الاعتراف بفئات جندرية أخرى غير مرئية وتتعرض للتطفيف الاجتماعي كما تتعرض له المرأة. نحن بحاجة إلى إعادة النظر في بعض المسلّمات التي سلِمت من النقد، مثلا:
هل يحظى كل الرجال دائما بالسلطة في المجتمع الذكوري؟ هل هذا النموذج موحد في كل السياقات أم أنه يتغير من سياق إلى آخر؟ أسئلة كهذين السؤالين تمكننا من فهم أنه، كما في النسوية، يعتمد أداء الذكورية أداءً على فئات العرق والطبقة الاجتماعية والجنسانية وغيرها وتقرّبنا من دراسة الذكورة.
فالذكورة تضع جُملة من الخصائص، قد لا يكون تحديدا أمرها سهلا على الدوام، تشمل أشكال السلوك والحديث وأنماط الحركة وأساليب الملبس.
تحدد تلك الخصائص إمكانية أن ينتمي الفرد إلى الفئة الاجتماعية المهيمنة في مجتمع أبوي من عدمها. ولهذا أعتقد أن دراسة الذكورة تمنحنا فرصة ذهبية لتفسير الطرق التي يضطلع بها الرجال بأدوار اجتماعية مهيمنة دون النساء وهويات جندرية أخرى يقصى أفرادها بوصمهم بأنهم مائعون أو مخنثون إلخ.
تتجسد الذكورية المهيمنة في الممارسات التي تشرعن موقع الرجل من هرم العلاقات الاجتماعية وبالتالي تبرر تبعية المرأة وخضوعها. لكن ليس هذا كل شيء لأن تلك الهيمنة تبرر الموقع الدوني لبعض أشكال الرجولة الأقل التزاما بمفهوم الرجولة المتواطأ عليه في المجتمع والتي تحيد عن رجولةٍ ما متخيلة.
صورة كهذه توضح ما أقول، فالخطاب اليومي لما يجب أن يكون عليه الرجل يُملي سلوك الرجل والذي لا يكون في صالح المرأة على الأغلب.
هذا التصور ليس دائما يسير في اتجاه واحد، بل إلى الأعلى أحيانا. الفجوة التي تكون بين الخيال الذكوري والواقع المعاش تؤدي إلى إحباط جنسي يكون سببا رئيسا في العنف الموجه ضد المرأة. ومع الوقت يصبح حتى العنف تجاه المرأة ملمحا من ملامح الرجولة المتخيلة وخيال ذكوري يرى المرأة مِلكا يكفله له النظام الأبوي والرأسمالي ومن خلال الهيمنة عليه يحقق ذاته. بل إن حتى حماية المرأة قد تكون تجليا لتلك الهيمنة.
في السياق الكولونيالي ذاع الزعمُ أن "الرجل الأبيض يحمي النساء الملونات من الرجال الملوَّنين." وقد قدمت سبيڤاك هذه العبارة تفسيرا للعلاقة بين المستعمِر والمستعمَر.
هذه العبارة، المبنيّة على علاقة الضحية/البطل، وإنْ صورت الرجل الملون على أنه خطر يهدد وجود المرأة وصحتها، إلا أنها تمنح الرجل الأبيض، الأعلى بطبيعة الحال في هرم العلاقات الاجتماعية، فضيلة الشهامة المتجسدة في قدرته، بل رغبته، في حماية المرأة الملونة من الاضطهاد.
أعود إلى الذكورة، وأقول: من أجل فهم القوى الاجتماعية المتزحزحة على الدوام، نحن بحاجة إلى توسيع دائرة التناول أثناء مقاربة الهوية الجندرية بدلا من قصر البحث الجندري على الخطاب النسوي الذي وإن كان سيسهم في استعادة بعض الحقوق، فإنه قد يعجز عن تقويض تسييس الجندر والتطفيف الناتج عنه بل أسوأ من ذلك قد يسهم في تكريس الثنائيات التي يُراد لها أن تسيطر على القوى الاجتماعية، معرقلا بذلك محاولات إصلاح وضع المرأة وباقي الفئات لأن ما تسعى إليه حركة نسوية ليس إنهاء الاضطهاد الواقع على المرأة فحسب، وإنما أيضا الاضطهاد الناتج بسبب تصورات عن النوع أو الجندر.
أخيرا، هناك ميزات تقليدية تُعزى إلى الذكورة، وتلك أصبح من السهل استيعابها وتحليلها ونقضها، لأنها أكثر صراحةً في تبرير "طبيعيّة" التعدي والانتهاك المغاير، أي الواقع من الرجل على المرأة، وتسفيه امتعاض المرأة منه. ولكن الميزات المتغيرة المرتبطة بالسياقين التاريخي والجغرافي أجدر بالتناول، لأنها تساعد على الوصول إلى طرق أنجع في تحقيق الإقساط الاجتماعي لا تخلو من الحساسية للسياقات الاجتماعية والثقافية، كما تشجع فئات جندرية أخرى تحتمي بلا مرئيتها في ظل النموذج المستقطِب وتصوراته المتجانسة عن النسوية والرجولة المفرطة والتي تشكّل الوضع القائم.