ما زلت أذكر تكاثف الكتابات بعد فوز أوباما من أنصار الديمقراطية والتنويريين في الخليج بالذات، أمثال نواف القديمي وعبدالله المالكي وغيرهم وترديدهم للحرية وكرامة الإنسان وسيادة القانون والديمقراطية، ولا يخفى تأثير كتاب الحرية والطوفان لحاكم المطيري في عقول بعض الشرعيين، ومن بعده كتاب الديمقراطية لـمحمد الأحمري، والكثير من الشباب آنذاك (وأنا منهم) متعاطفا مع هذه المقولات، فلا ننس تلك الحوارات والسجالات والردود بينهم وبين خصومهم، لحين ظهرت الثورات المضادة في بعض الدول العربية، وتناثرت الدماء في سوريا واليمن، وبدأ الوعي يستيقظ، وبعد تفاجؤ العديد من المثقفين بفوز ترمب في مجتمع كان متنعّما بالحرية لأجيال طويلة، مجتمع العلم والجامعات الراقية، رشّحوا رجل، لا يجهل في الأمور السياسية فحسب بل حتى في الثقافة بشكل عام.

لنعود للتنويريين، فالإشكال في رؤاهم، أنها لم تكن عميقة وباحثة في أصولها وجذورها، متلمسة ولو بلمحة خاطفة عن بداياتها في الكتابات الفلسفية قبل عصر التنوير في أوروبا.

سأسرد موقفي باختصار عن إشكالات الديمقراطية وما هو البديل.

١-في كتاب الجمهورية لـأفلاطون فقال عن الديمقراطية بأن لديها تهاونا وتساهلا مفرطا واحتقارا للمبادئ "وضمنها المبدأ القائل إن المرء، مالم تكن له طبيعة حارة للمألوف، لا يمكن أن يغدو شخصا صالحا مالم يعتد الأمور الصالحة منذ نعومة أظفاره".(١)

وطلب منا سقراط بأن نتخيل نقاش الانتخابات بين مرشحين اثنين، أحدهما طبيب والآخر صاحب متجر للحلوى، سيقول صاحب متجر للحلوى عن خصمه، انظروا لهذا الشخص إنه يمنعكم من الكثير من الأطعمة ويؤذيكم بأدواته، ولن يقدم لكم الولائم الشهية والحلويات اللذيذة، مثل ما أفعل. كيف سيكون رد الطبيب هنا، وهل سيقتنع أغلب الناس؟(٢)

وحتى نعوم تشومسكي قد أطال في آخر كتاب أصدره (أي نوع من المخلوقات نحن؟) في الفصل الثالث عن السياسة ومفهوم الحرية والديمقراطية وعلاقتها بالفوضوية حاشدا مجموعة من المقولات في سلة واحدة من غير ترتيب، وختمها بعبارات مترددة.

وكذلك يورغن هابرماس لم يعد يعوّل على الديمقراطية، بل يحاول أن يُبدع ديمقراطية تشاركية يُزيح عيوبها ويُهذّبها.

٢-أن الإشكالات تختلف من عصر إلى عصر ومن بلاد إلى أخرى، فالإقطاعية التي كانت في أوروبا انتقلت بثورات دموية بعكس الإقطاعية في اليابان،

‏بل إن ظهورها في الأخيرة، يعد عاملا في الإسراع في عملية التحديث في نهاية القرن التاسع عشر، كما تقرر ذلك عند محمد أعفيف في كتابه (أصول التحديث في اليابان). لنترك التعبير الإنشائي ولنتحدث بالأرقام، ‏فالدول الملكية‬ كالنرويج،السويد، الدنمارك،هولندا، كندا، نيوزيلاند،اليابان، بلجيكا، من أكثر الدول رفاهية وتنمية وحرية ومساواة وسيادة القانون والعدالة، لنلقي نظرة على الإحصائيات:

‏-سيادة القانون والعدالة :

‏⁦‪data.worldjusticeproject.org/#grid‬⁩

‏-حرية التعبير والصحافة :

‪rsf.org/en/ranking

أنا هنا لا أدافع عن الملكيات ولا الحاكم المستبد العادل، بل لكل أرض سماته وأثيره وهوائه وترابه، لا نحاول رفع شعارات الحرية والكرامة مجردة عن إدراك معانيها وكيفية تطبيقها، لماذا لا يكون لدى التنويريين في سرد هذه العبارات سياقا حكيما وتحليلا معقولا في إنزالها على أرض الواقع؟، أخشى ما أخشاه أن نكون مثل الإسلاميين الذين قال عنهم عبدالله النفيسي في تغريدة له "‏الإسلاميون عندهم سلاح مدفعية يُسْقط النظام، لكنهم يفتقرون لسلاح المهندسين الذي يبني البديل"

_____________________

(١) جمهورية أفلاطون، ترجمة فؤاد زكريا ص٤٥٧

(٢) من مقطع اليوتيوب

https://youtu.be/fLJBzhcSWTk