كلمة (ليبرالي) (Liberal) معناها اللغوي اللفظي في لغات الغربيين تُرادف باللغة العربية كلمة (تحرِّري) liberty كأنما عبارة (الليبرالية) تعني بمفهومها المزيد من الانطلاق والتحرر من القيود والأغلال والتدخلات (الاجتماعية) في حريات وخصوصيات الأفراد (شؤونهم وحياتهم واملاكهم الخاصة) من أجل نيل الانسان (الفرد) المزيد من الحرية (freedom) والاستقلالية (Independence)... كما انها تعني عدم التقيد بالأفكار والطرق التقليدية السائدة مع البحث عن (التجديد) اي انها عكس (التقليد)، فالشخصية (الليبرالية) هي عكس الشخصية التقليدية (المحافظة) و(السلفية) التي تحافظ على تراث وتقاليد الاسلاف وتعتبر الخروج عنهم تهديدًا لثوابت وهوية المجتمع!.. وأما في الاصطلاح الفكري والسياسي فإن عبارة (ليبرالي) أصبحت تُقال ويُراد بها الشخص أو المجتمع المؤمن بالمذهب الاجتماعي والسياسي والاقتصادي القائم على مبادئ حقوق الإنسان وحريات الافراد وحرية السوق والاقتصاد، أي (المذهب الفردي) الذي يقوم على أساس تعظيم وتقديس إنسانية وفردانية الانسان وحقوقه الشخصية كحرية العقيدة والمِلكية والخصوصية وحرية التعبير والتنقل والعمل في مواجهة النزعات السلطوية الاجتماعية والسياسية والقومية الاصولية والشمولية التي تقوم على مبادئ وأفكار جماعية وشعبية وشعبوية تحد كثيرًا من حريات الافراد وتتغول على حقوقهم المادية والمعنوية بشعارات قومية أو وطنية أو دينية أو أيديولوجية مثل الأيديولوجيا الشيوعية أو النازية أو الفاشية أو الاشتراكية القومية أو الاسلاماوية السلطوية (كما في نموذج دولة داعش وطالبان)...الخ .... فمن يؤمن بعظمة وقدسية البشر - كأفراد مستقلين يتمتعون بشخصية إنسانية فردانية لها مجالها الخاص – فهو مؤمن بـ(المذهب الفردي) الذي يقوم على مبدأ أولوية (إنسانية وفردانية الانسان) على الجماعة والمجتمع والقوم والشعب والأمة والدولة ويُؤمن بقدسية المجال الفردي الشخصي (المادي والمعنوي) الخاص بكل انسان فرد ... من يؤمن بهذه الأفكار والمبادئ والمعتقدات – إذن - هو صاحب توجه ليبرالي (تحرري) من الناحية الفلسفية سواء كان علمانيًا أو متدينًا، سواء أكان مؤمنًا يؤمن بوجود الله أو كان مؤمنًا بعدم وجوده (مُلحد)، فهو في الحالتين (ليبرالي)!، فالليبرالية بالأساس فلسفة وثقافة اجتماعية تقوم على تقديس حرية وحقوق الافراد انبثقت عنها فلسفة اقتصادية تمثلت في نظام السوق الحرة وحرية الاقتصاد!
فهذه هي الليبرالية من حيث المبدأ الفلسفي والثقافي، ثم تختلف تطبيقاتها وتنزيلاتها على الواقع الاجتماعي والقانوني من مجتمع إلى آخر!.. فتفاصيل تطبيقات الليبرالية في بريطانيا وأمريكا مثلًا تختلف عنها في فرنسا وسويسرا وروسيا والهند، فالدول والمجتمعات (الليبرالية) تختلف فيما بينها في الحدود (القانونية) والقيود (الاجتماعية) المفروضة على هذه الحريات الفردية والشخصية بل وقد تختلف هذه (الحدود الاجتماعية والقيود القانونية) في المجتمع الليبرالي من زمن إلى آخر، فمثلًا كان تدخل الدولة (البريطانية) – وهي أم الديموقراطية الليبرالية - في حرية الاقتصاد والسوق والاملاك الفردية في أدنى الحدود في القرن الثامن عشر وربما حتى الحرب العالمية الأولى ثم تغير الأمر وأصبح للدولة دور أكبر في ضبط السوق والاقتصاد الوطني!... وهكذا تخلت الكثير من الدول الغربية عن الليبرالية (الكلاسيكية) بمفهومها القديم لليبرالية (دعه يعمل دعه يمر) و(الدولة مهمتها فقط ضبط النظام العام وتوفير الأمان والحماية من العدو الخارجي وحماية ممتلكات وحريات الافراد) – خصوصًا مع ظهور المد الاشتراكي الراديكالي المتطرف (الشيوعي) – وتبنت المفهوم الجديد و(الرشيد) التي أطلق عليه البعض مصطلح (الليبرالية الاجتماعية) أو ربما (الليبرالية الاشتراكية!) حيث أصبحت الدولة تلعب دور (راعية المجتمع ككل وخصوصًا الفئات والطبقات الفقيرة ومحدودة الدخل) ولم تعد تلعب دور حماية (الطبقة الرأسمالية المالكة) (طبقة الذين يملكون) من (شر الذين لا يملكون!)، وأصبح كذلك من واجبها الاجتماعي والوطني حماية (الذين لا يملكون) من (شر الذين يملكون)!.. فالدولة البريطانية تخلت عن (الليبرالية الكلاسيكية) المتغولة في الانحياز للأفراد وحرية الاقتصاد وأخذت تعمل على الموازنة بين حقوق الافراد الخاصة (الشخصية) وحقوق المجتمع الوطني العامة (القومية) ككل من ناحية، ومن ناحية أخرى تعمل على الموازنة بين ضرورة منح القوى الرأسمالية وحركة السوق الحرية الكافية لتنتج بكفاءة وفاعلية وما يحقق تنمية الثروة الوطنية القومية والتفوق الاقتصادي في المجتمع الدولي والسوق العالمي، وبين ضرورة تحقيق القدر الكافي والمعقول من ضمان حياة كريمة للمواطنين وخصوصًا الطبقات الفقيرة والفئات العمالية (محدودة الدخل)، وهذا اقتضى أن تتدخل الدولة وتفرض المزيد من القيود والضرائب التصاعدية على الطبقة الرأسمالية لصالح نموذج دولة (الرعاية الاجتماعية)!.
وهكذا اختفت الدولة الليبرالية الكلاسيكية بوجهها الرأسمالي المتطرف والأناني التي كان يتحدث عنها (ماركس) ويتنبأ بأنها ستقتل نفسها بنفسها ابتداء من بريطانيا (أم الليبرالية وأم الرأسمالية)!.... فالليبرالية بمفهومها الحديث الناتج عن تراكم التجربة والخبرة لم تعد تلك الليبرالية ذات التوجه الفرداني المتطرف والمتشدد، إذ أصبح للكيان الاجتماعي كإطار يعيش فيه الفرد اعتبارًا كبيرًا في حسابات الدولة الوطنية والقومية!
وبالرغم من هذه التطورات والتحسينات في الفكر الليبرالي مع تطور التجربة وتراكم الخبرة وتنقيح الفكرة إلا أن الليبرالية كفلسفة وثقافة اجتماعية سائدة في الغرب ظلت على جوهرها الأساسي الذي يقوم على مبدأ أولوية (إنسانية وفردانية الانسان) على الجماعة والمجتمع والقوم والشعب والأمة والدولة ويُؤمن بقدسية المجال الفردي الشخصي (المادي والمعنوي) الخاص بكل انسان فرد، والسعي إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من الحرية والاستقلالية لحركة وعلاقات الأفراد وأيضًا لحركة السوق والاقتصاد، وأقل قدر ممكن من تدخلات الآخرين والمجتمع والدولة أي أدنى حد ممكن من القيود القانونية والحدود الاجتماعية، إذ هذا المعنى والمسلك هو جوهر الفلسفة الليبرالية!.. فالليبرالية فلسفة انسانية عقلانية تقوم على تعظيم واحترام فردانية الانسان وحريته واستقلاليته الشخصية(*)، وتنشد (تحرير الانسان) وتحقيق المزيد من الحرية للأفراد من خلال المزيد من التحرر من كل القيود الظالمة والتدخلات المتعسفة (المفتعلة) وغير المنطقية وغير الطبيعية وغير العادلة التي تتغول على كرامة وحقوق الافراد ولكن على أن يتم ذلك في إطار اجتماعي منظم عادل يوازن بين حقوق ومصالح الافراد وحقوق ومصالح المجتمع ككل حيث تقوم دولة الليبرالية الاجتماعية بعمل جهدها في تحقيق وضمان هذا التوازن الرشيد!، وهو الامتحان الصعب والتحدي الحقيقي امام الليبرالية الاجتماعية (ما بعد الليبرالية التقليدية الكلاسيكية)!
****************
سليم نصر الرقعي 

[email protected]

https://www.facebook.com/salimragi

 (*) تلتقي الفلسفات أو الرؤى والأفكار (الوجودية) – بصورها المختلفة - مع الفلسفة الليبرالية في مبدأ تعظيم الشخصية الإنسانية أي تقديس إنسانية وفردانية الانسان واستقلاليته ومجاله الخاص.... إلا أن الليبرالية في حقيقتها فلسفة اجتماعية وسياسية أي تهتم بتنظيم المجتمع الإنساني على أساس قداسة الافراد واحترام حرياتهم الشخصية وحقوقهم الخاصة ولهذا انبثق عنها نظام قانوني واقتصادي وسياسي يتلاءم مع مسألة احترام كرامة الانسان وحقوقه الفردية بينما الوجودية فلسفة فردية خالصة تعبر عن تجربة كل فيلسوف ومفكر وجودي بطريقة شخصية حتى تكاد تكون كل تجربة وجودية مختلفة عن الأخرى، حيث تجد الوجودي المؤمن بوجود الله وبصحة الأديان وفي المقابل تجد الوجودي الملحد المؤمن بعدم وجود الله الخالق والرافض للأديان، إلا أن الوجودية تختلط كثيرًا بالجانب الوجداني والأدبي للمفكر الوجودي حتى تكاد التجربة الوجودية تشبه التجربة الصوفية التي في حقيقتها تقوم على ذوق وجداني خاص للمتصوف فيما يتعلق بتجربته الدينية مع معبوده (الله)!.. كذلك حال الوجودي فهو يرى هذا العالم من نافذته الشخصية الخاصة ومن خلال عينيه وتجاربه في الحياة فيختلط فيها الأدب بالفكر، وتختلط الشاعرية بالفلسفة!، لكن الغالب على الوجوديين أنهم قوم ينفرون من الساسة والسياسة كما لمست في تجربة (كولون ولسون).