انطلاقا من قول العلامة الشيخ محمد أحمد الراشد:

(استيعاب تجارب الحركات الإسلامية في العالم فيها خيرٌ كثيرٌ ووافر، فهي تجعلنا نبدأ من حيث انتهى الآخرون لا من حيث بدؤوا، وتعصمنا من تكرار الخطأ واهدار الجهود والوقوع في المتاهات.)

ننشر هذه السلسلة من مقالات العلامة الداعية المربي الدكتور محسن عبدالحميد عن تجربة الحزب الإسلامي بالعراق.

كان تعاملاً و لم يكن تعاوناً

كثير من الناس لقصورهم في فهم أوضاعنا السيئة بعد الاحتلال ٢٠٠٣ و لجهلهم بالحركة في إطار شبكة الشريعة الإسلامية و النظر في مآلات الأمور الخطيرة لم يفرقوا بين سياسة التعامل و خيانة التعاون و من ضمنهم بعض مدعي العلم.

فالتعاون يعني إعطاء الشرعية للمحتل، بإستدعائهم و تأييدهم و الترحيب بهم و عدم معارضتهم، و الزعم بأنهم محررون و ليسوا محتلين، بل و أخذ الأموال منهم، و الإعلان أن مقاتلتهم إرهاب و ليس جهاداً، و غير ذلك من قبائح الأمور.

و نحن رفضا كل ذلك رفضاً قاطعاً لما يلي:

١) رفضنا قبل الاحتلال مؤتمرات المعارضة لاسيما مؤتمر لندن و مؤتمر صلاح الدين الذي قرر فيه الاحتلال، و أصدر رئيس الحزب ( أياد السامرائي ) بياناً بذلك يومئذ.

٢) أصدرنا بعد الاحتلال بياننا الاول، استنكرنا فيه هذا الاحتلال، و قلنا بأنه احتلال غير شرعي حسب قوانين الأمم المتحدة و غيرها.

٣) قاومنا الاحتلال مقاومة سياسية عنيفة في بياناتنا و أجنحة إعلامنا المقروءة و المسموعة و المرئية، و من خلال احتفالاتنا السياسية و المناسبات الدينية. و كذلك من خلال القنوات الفضائية العالمية. بل إنني كنت أهاجمهم في مجلس الحكم و المجلس الوطني، و أفرق تماماً بين المقاومة الشرعية و الإرهاب.

٤) و عندما ذهبنا إلى الأمم المتحدة طالبين منها جدولة الانسحاب، رفضت زيارة البيت الأبيض و قلت للدكتور ( عدنان الباجه جي ) رئيس الوفد: كيف أزور رئيساً احتل بلدي؟ و نشرت تفاصيل هذا الموقف في جريدة ( واشنطن بوست ) و ذكروا أن الأمين العام للحزب الاسلامي لم يزر البيت الأبيض.

هذا و غيره من أسباب تعاملنا مع العملية السياسية في ظل الاحتلال البغيض سنذكرها في الحلقات القادمة إن شاء الله بعنوان ( لماذا عادانا المحتل الامريكي).

هذه الكلمات أهديها إلى الذين يهرفون بما لا يعلمون.

لماذا عادانا المحتل

الولايات المتحدة و أجهزتها الاستخباراتية كانت تعرف عن الحزب الاسلامي العراقي الكثير، لأن مواقفه منذ أيام تأسيسه ١٩٦٠ كانت مواقف رفض قاطع للسياسات الاستعمارية في العالم الإسلامي، و لاسيما قضية فلسطين التي ورد موقفه منها مجدداً في نهاية البيان الأول للحزب عند إعلان ظهوره الجديد بعد الإحتلال الأمريكي ٢٠٠٣ للعراق.

و كذلك عرفوا هذه الحقيقة عندما انسحب الحزب من مؤتمر لندن و لم يحضروا مؤتمر صلاح الدين بعد أن علموا أن الولايات المتحدة سوف تحتل العراق.

ثم علموا ذلك من خلال تصريحاتنا الإعلامية في القنوات المسموعة و المرئية و المقروءة. لأن الإعلام العالمي بكل أصنافه توجه إلينا، و استطلع آراءنا حول الإحتلال و وجوده و أخطائه و جرائمه. و كنا صريحين جداً في عرض مواقفنا، لم نخفِ شيئاً في عرض ثوابتنا الإسلامية.

و من راجع الأعداد الاولى من جريدتنا دار السلام، و إذاعتنا المتواضعة التي كانت تسمع في بغداد و ضواحيها تبينت له مقاومتنا السياسية للإحتلال بوضوح لا لبس فيه.

ثم إننا قمنا بعقد اجتماعات جماهيرية ضخمة بمناسبة المولد النبوي الشريف في مقر الحزب في بغداد و الأنبار و ديالى و الموصل و كركوك و البصرة، رفضنا فيها مشروع الإحتلال الأمريكي، و دعونا إلى مقاومته بكل الوسائل المشروعة. و كانت المخابرات الامريكية تراقبنا و تسجل علينا ذلك. و في الأيام الأولى حاصرت الدبابات الأمريكية مقرنا و فتشوا الغرف و القاعات و بدأوا يسألون الأسئلة الكثيرة و الإستفزازية لاسيما علاقتنا بجماعة الإخوان المسلمين.

و عندما رفض الأمريكان دخولنا في مجلس الحكم، كانوا يعرفون لماذا يرفضون.

و لولا ضغط الأحزاب الكردية عليهم، لما قبلوا دخولنا فيه أصلا.

و للحديث صلة.

لماذا عادانا المحتل (٢)

و بعد دخولنا مجلس الحكم، تبينت لهم الحقائق كاملة. ففي أول يوم رفضت بقوة أن يتخذ يوم ٩/٤/٢٠٠٣ عيداً وطنياً للعراقيين، و أعلنت ذلك في القنوات الإعلامية بوضوح، و رفضت إلقاء كلمة في المؤتمر الصحفي الذي عقده أعضاء مجلس الحكم في قاعة المؤتمرات، تكلم الأعضاء جميعاً و رحبوا بما سموه تحرير العراق، و طُلب مني الكلام فرفضت. و كان ( بريمر ) و أركان إدارته الجالسين لاحظوا ذلك بكل انتباه و دقة. و عند أول حضور (جون أبو زيد) قائد القوات الوسطى و (بريمر) و القائد الأمريكي في العراق ( سانشيز ) و ( ديميللو ) ممثل الأمم المتحدة في مجلس الحكم، قلت لهم أنكم جئتم لتدمير العراق و دمرتموه، حافظتم على وزارة النفط فقط، و سمحتم بحرق الوزارات و المؤسسات الثقافية، و سرقة المتاحف، و خالفتم قوانين الأرض و السماء، و تقولون جئنا لتحرير العراق!!

و منذ ذلك اليوم بدأت القوات الأمريكية بمداهمة مقراتنا و اعتقال المسؤولين فيها، و بعضهم كانوا يبقون في ظروف السجون الصعبة أشهراً طويلة، و كانوا يصادرون أجهزة الحاسوب و بعض الأوراق و بعض النقد المتواضع الموجود. و لم يفعلوا ذلك بالكيانات الأخرى. لم يكونوا مقتنعين أبداً أن الحزب الإسلامي ليست عنده مقاومة. و في هذه الصفحة لا يمكن تقديم جميع الأدلة على ذلك. و ستنشر تفاصيل هذه القضايا في كتابي القادم (( العراق المعاصر، سيرة و شهادة )) إن شاء الله.

و قد قلت قبل ذلك أنني رفضت الذهاب إلى البيت الأبيض لمقابلة الرئيس بوش، و نشر الخبر في الجرائد الأمريكية.

و للحديث صلة.

لماذا عادانا الاحتلال ؟ ٣

عندما اقتحمت القوات الامريكية في نهاية ٢٠٠٣ جامع ام الطبول، زعمت انها وجدت أسلحة متنوعة في الجامع وعرضت صورها، فاستنكرت فورا امام القنوات الفضائية المعروفة في مؤتمر صحفي هذا الاعتداء المشين و كذبت ان تكون هذه الأسلحة من التي يستعملها الجيش العراقي او كانت معروفة في العراق.

وفي المجلس الوطني قال نائب: لا توجد مقاومة في العراق وأتهم الكل بالإرهاب، فرددت عليه امام المجلس، وقلت: نعم توجد مقاومة شرعية، لا توجه سلاحها الا الى الاحتلال وهذا امر مشروع. وأما الإرهاب الذي يقوم بالأعمال الإجرامية ويقتل على الهوية ويفجر الاسواق فهؤلاء يشوهون سمعة المقاومة، ويقف وراءه الموساد الاسرائيلي، وقلت : ولا تنسوا المخابرات المركزية الامريكية فان لها تأريخا طويلا في افتعال مثل هذه الاعمال لتشويه المقاومة الشرعية، وانا اعلم ان كل ما كنت أقوله كانوا يسجلونه.

وفي نهاية حزيران (٢٠٠٤) ذهبنا الى مؤتمر مونتانا السويسري الذي حضره مئات من رؤساء الدول و الوزراء السابقين واللاحقين وكثير من المفكرين ورجال الدين والإعلاميين، فكانت كلمتي بعنوان الوضع الأمني في العراق فبدأت أتكلم عما فعله الاحتلال غير القانوني في العراق كتخريب المؤسسات العراقية ومداهمات البيوت بتفجير الأبواب و سرقة ما فيها من ذهب و أموال و اعتقال الناس وتعذيبهم و للوقائع الدامغة في كلمتي، لم يوقفني رئيس الجلسة، وكانت الكلمات تنقل الى العالم بالانجليزية والفرنسية والألمانية ونشرت مقاطع منها في واشنطن بوست وغيرها.

و عندما انتهيت من الكلمة قام كل من في القاعة في تصفيق حاد استمر وقتا غير عادي، و عندما نزلت جاؤوا الي هنؤوني على الحقائق التي قدمتها الى العالم.

هذه المواقف القوية الواضحة في مقاومة الاحتلال خلال سنتين من رئاستي للحزب هي التي دفعتهم بعد ان رفعت عني الحصانة الى الهجوم على بيتي وأسرتي الذي شهده العالم بتفاصيله على جميع القنوات الفضائية وعلى رأسها قناة الجزيرة ولا حاجة الى عرضها مرة اخرى.

إستشراف المستقبل

كثير من الناس في العراق لم يستوعبوا الإستشراف المقاصدي بمآلات الأمور التي استشرفها الحزب الإسلامي عام (٢٠٠٣) بشأن ما يجب أن نفعله مع الوضع الجديد حتى لا يختل ميزان وحدة العراق، فتسيطر طائفة على طائفة أخرى بتدخل بعض دول الجوار، و ينتهي هذا الصراع إلى سفك الدماء و خراب البلاد و تمزق العباد.

إن هذا الاستشراف للمستقبل و تقويم ما يحدث فيه - و قد حدث تماماً - لم يكن اجتهاد فرد معين، و إنما كان دراسة شرعية سياسية معمقة، ثم قراراً لمجلس شورى الحزب الذي كان يتكون من ٦٠ عضواً يمثلون ثلاثة أجيال متعاقبة، فيهم علماء الشريعة و الدعاة و المثقفون من مختلف الاختصاصات، قضوا أعمارهم في الحركة الإسلامية، و تحملوا في سبيل تمكينها صنوفاً من العذاب و القتل بيد الطغاة و المفسدين من الحكام و غيرهم. غير أن الحزب في كل ما نشر إلى هذه اللحظة لم يتطرق إلى السبب الجوهري لتقرير سياسته المقاومة خشية من صراع دموي رهيب كان من الممكن أن يحدث في تلك الأيام و ما زال يخاف بإفشاء ذلك السبب أن يحدث فيه المزيد.

و خلال لقاءاتي الخاصة بقيادات الحركة الإسلامية في داخل العراق و خارجه عندما كنت أشرح لهم الأسباب الحقيقية لما قمنا به، كانوا يعودون إلى أنفسهم و يبينون أسفهم لما كان قد حصل منهم من الهجوم أو الاعتراض الشديد علينا. غير أن من الصعب على من لا ينظرون إلا إلى مواقع أقدامهم أن يفهمونا عن طريق النشر العام، غير أنهم إذا جلسوا معنا سيفهمون ما اتخذنا من قرارات خطيرة في تقرير آرائنا السياسية بعد عرضها على شبكة الشريعة الإسلامية، سواء من حيث النصوص أو القواعد أو المقاصد أو المآلات. و للخروج من تزاحم الأحكام الشرعية لتقرير المصالح و المفاسد اعتمدنا فيها على أمثال الإمام الشاطبي في ( الموافقات ) و شيخ الإسلام ابن تيمية فى ( مجموع الفتاوى ) و العلامة ابن القيم في ( إعلام الموقعين ) و العلامة العز ابن عبدالسلام في ( قواعد الأحكام )، هؤلاء الذين عاشوا في الظروف نفسها التي واجهتنا بعد الاحتلال، فضلاً عن المجتهدين المعاصرين المعروفين كالعلامة فقيه العصر مصطفى الزرقا و العلامة فيصل مولوي و العلامة يوسف القرضاوي و العلامة عبدالله بن بيّه.

و أما الحاقدون الأعداء ( الآيدولوجيون ) اللادينيون الشوفينيون الذين أوجدهم الغرب لمحاربة الحركة الإسلامية المعاصرة فلو جئنا لهم بألف آية على حسن تصرفنا و الاعتماد على شريعتنا فإنهم لن يتبعوا قبلتنا، لأن مقصودهم الأساس هدم الحركة الإسلامية و من ورائها هدم الإسلام ذاته.