فصاحة لفظة, (عطشانة)، مؤنثا لعطشان بين المعاجم وبين كتب النحو:


نظرة يمكن أن يقال عنها فاحصة بين بعض المعاجم وبين بعض كتب النحو لعلها تحسم الجدل، فكتب النحو البصرية بالذات تعنى بالقياس وكتب اللغة تثبت السماع.

جاء في تهذيب اللغة للأزهري ت-370 ـه، وهو من أقدم المعاجم وأضبطها في (1/258): 

"عَطش: قَالَ اللَّيْث وَغَيره: يُقَال رجلٌ عطشان وَامْرَأَة عَطْشَانَة وعطشَى، والجميع عِطاش".

فلم يفصل بين فصيح وأفصح، ولا ذكر اختصاص قبيلة بلفظ دون غيره، بل لو صح لنا اعتماد التقديم في الألفاظ عنده لقلنا: قدم عطشان على عطشى، والوقوف على ظاهر كلامه على تسويته بين اللفظين أولى.

وبعض المعاجم اكتفت بحكايتها عن الليث وحده، على جدل كبير بين الباحثين قديما وحديثا حول أخطاء في معجم العين، وقد مضى النقل عن الأزهري أن عطشان محكية عن الليث وغيره، ولم ينفرد بها.

وبعض المعاجم كالقاموس المحيط (1/598) ولسان العرب (10/191-192)اكتفت بذكر اللفظين دون نقل حكاية أو تفصيل بين فصيح وأفصح.

وأما كتب النحو فهي التي عنيت بهذا التفصيل, لما كان الهدف هو ضبط اللغة بالقياس ما أمكن، فكانت زنة فعلان تتجاذبها أبواب ومسائل, وهي, المنع من الصرف، والجمع، والتصغير، وهي ذات صور مختلفة، فمرة اسم ومرة صفة، ومرة نونها زائدة، ومرة أصلية، ومرة فيها الوجهان, أصلية ومزيدة, كالخلاف في شيطان وحسان، والضوابط والقواعد أغلبية لا تكاد تطرد اطرادا تاما.

جاء في شرح المفصل لابن يعيش (1/186): 

"وأمّا الألف والنون المضارعتان لألفي التأنيث، فهي من الأسباب المانعة من الصرف، من حيث كانتا زائدتَيْن، والزائدُ فرغٌ على المَزِيد عليه. وهما مع ذلك مضارعتان لألفي التأنيث، نحو: "حَمْراءَ"، و"صَحراءَ"، والألف في "حمراء" و"صحراء" يمنع الصرفَ، فكذلك ما أشبَهه، وذلك نحو: "عَطْشانَ"، و"سَكْرانَ"، و"غَرْثان"، و"غَضْبانَ"، واعتبارُه أن يكون "فَعْلَانَ"، ومؤنّثُه "فَعْلَى"، نحو قولك في المذكّر: "عَطْشانُ"، وفي المؤنّث: "عَطْشَى"، و"سَكْرانُ"، وفي المؤنّث: "سَكْرَى"، و"غَرْثانُ"، وفي المؤنّث: "غَرْثَى"؛ لا تقول: "سَكْرانَة"، ولا "عطشانة"، ولا "غرثانة" في اللغة الفُصْحَى. وإنّما قلنا: "فَعْلَانُ"، ومؤنّثه "فَعْلَى"، احترازًا من "فَعْلَان" آخر، لا "فَعْلَى" له في الصفات. قالوا: "رجل سَيْفان"، للطويل الممشوقِ؛ وقالوا: "امرأة سَيفانةٌ"، ولم يقولوا: "سَيْفَى"، وقالوا: "رجلٌ نَدْمانٌ"، و"امرأة ندمانةٌ"، ولم يقولوا: "نَدْمَى". فهذا ونحوه مصروفٌ لا محالة".

فجعل لفظة عطشى اللغة الأفصح، ولم يذكر السبب.

والمصنفون في علوم اللغة أقسام، منهم من كان لغويا فقط, اختصاصه بالجمع والرواية، ومنهم من اقتصر على علوم الآلة, النحو والصرف، ومنهم من جمع بين الأمرين، وكل قسم من الأقسام الثلاثة على درجات، فأما الجامع بين علوم الرواية والدراية فكان الأسعد حظا، فثروته اللغوية من المرويات أسعفته في معرفة الاختلاف بين الفصحى وبين اللهجات، وما كان شائعا في الفصحى مما هو دونه، فهو الذي عرف لغة أفصح العرب، وما دونه مما هو عربي جيد، وما دونه مما هو عربي، وما هو قليل، وما هو نادر، واستثمر بعلم الآلة عنده كيفية توظيف هذه المباحث من المرويات, فجعل الغالب الأعم قياسا، ونص على الاستثناء، ومن هؤلاء سيبويه، فعنده القراءة سنة متبعة، ويستشهد بالحديث مع علمه بجواز الرواية بالمعنى، ويستدل بالأبيات وإن جهل قائلها لما كانت المدونة اللغوية شاهدة بصحتها.

وأما المشتغلون بعلم الآلة فنجم منهم من يتكلم في القراءات وفي إشكال الاحتجاج بالحديث لجواز روايته بالمعنى، ومن هؤلاء من أول ما خالف القياس أو رده، كما فعل أهل التعصب المذهبي في الفقه مع النصوص التي تخالف المذهب.

وربما كان هذا هو السبب في الاختلاف بين أهل الرواية وبين أهل الدراية, بين كتب المعاجم وبين كتب النحو في التعامل مع مؤنث عطشان، فأشهر كتب المعاجم وأضبطها روتها دون ترجيح صيغة على صيغة، وكان الترجيح حليف كتب النحو، تارة بالاكتفاء بذكر الضابط الذي قرروه من أن فعلان الذي مؤنثه فعلى غير منصرف، وقد اطرد هذا في أبنية هذا الباب عامة، وانخرم الضابط بسماع عطشان، عطشانة، وعلى هذا يتأرجح حالها بين الصرف وبين المنع من الصرف، فليس من سبيل عند من عني بالقياس إلا ترجيح لغة على لغة، ومن هنا تبدأ مسالك التأويل والرد، وإلا، فلو كانت لفظة عطشانة مرجوحة في الفصاحة لما أهملت أشهر المعاجم كلسان العرب والقاموس المحيط النص على أنها مرجوحة، ولنصت المعاجم المتقدمة التي كانت أقرب إلى عهد الجمع والتدوين أنها لغة بني أسد دون غيرها، وغاية ما فيها النص على أنها محكية عن الليث وحده، فتكون من الفرائد، وهذا مردود بالمعاجم التي نصت على أنها محكية عن الليث وغيره.

ويتطور الأمر إلى الأسوأ فيأتي صاحب معجم يسمي معجمه معجم الصواب اللغوي فيجعل لفظة عطشانة مرفوضة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

والخلاصة أن الطالب الخريج من أقسام اللغة العربية متى ما كان نهما يحب لغته وينهل من معينها لا بد أن يكون دقيقا فيما يقول وينقل، لأنه انتقل من مرحلة الحفظ والترديد إلى مرحلة يكون فيها باحثا مدققا، وإذا سلم ما تقدم من المنازعة، وحالف كاتب الأسطر الصواب فيها بتوفيق من الله، فيقال: الفظتان مسموعتان من العرب، وليس عندنا من المدونات المبكرة للغة نص على أن لفظة عطشانة مختصة بلهجة بني أسد، والضابط النحوي لا ينخرم، بل الأصوب فيها ما كان يصنعه سيبويه ومن كان على نهجه، فيقال: فمن كانت عنده على باب فعلان الذي مؤنثه على فعلى منع من الصرف، ومن كانت عنده على فعلان فعلانة لا يصرفها.ومن نماذج ذلك في شرح كتاب سيبويه للسيرافي (3/484): 

"وقد يجيء أسماء كثيرة يحتمل الاشتقاق فيها وجهين:

منهما: (حسّان) من أخذه من الحسن صرفه، ومن أخذه من الحس لم يصرفه.

وحسان بن ثابت لم يصرف نفسه حين قال:

ما هاج حسّان رسوم المقام … ومظعن الحي ومبنى الخيام

فدل على أنه كان يعتقد أن اسمه مأخوذ من الحس".

وهذا الكلام مع ما فيه مما هو محل منازعة يدل على طريقة تعامل النحاة الأولين مع ما يخالف قواعدهم.

وفي شرح كتاب سيبويه أيضا (4/63): 

"قال: " وأما معد يكرب ففيه لغات، منهم من يقول: معد يكرب، فيضيف ومنهم من يقول: معد يكرب فيضيف ولا يصرف بجعل " كرب " اسما مؤنثا، ومنهم من يقول:

معد يكرب، كما يقول: حضر موت غير أن الياء في معد يكرب مسكنة "

وعلى قياس ما حكاه سيبويه في معد يكرب إذا أضاف، ولم يصرف كرب، لأنه مؤنث يجوز أن يقال- إن صحت الرواية في " ذي يزن " أن لا يصرف- لا يصرف " يزن "؛ لأنه اسم مؤنث.

قال أبو سعيد: وقد كنت حكيت أن الجرمي لا يصرف " يزن " بجعله بمنزلة يسع ويزن من الفعل".

وهكذا فضل الللغويُ النحويُغيرَه, فأعطى كلا من القياس والسماع حقه وموضعه.

لا يفهم من الكلام المتقدم الغض من شأن كتب النحو والنحاة، بدليل ذكر ما تقدم من أقسام في المصنفين في اللغة العربية، لكنه سؤال ملح: لماذا تركت كتب المعاجم, المتقدم منها بالذات وهي المعنية بمثل هذا المبحث النص على أن لفظة عطشانة أقل في درجة الفصاحة من لفظ عطشى لتستدرك كتب النحو الغالب عليها القياس ذلك؟ وما أقدم كتاب معجمي نص على أن هذه اللفظة أضعف في الفصاحة، أو هي لغة بني أسد وحدهم؟

والله أعلم.