ان ضياع البوصلة السياسية الناجعة , وانعدام الرؤية الواعية , وافتقاد المبدئية والمنهجية والتنظيم والحس الوطني والغيرة الجنوبية والهوية العراقية الاصيلة ؛ فضلا عن هذه التخبطات والتحديات والضغوط الخارجية و نقاط الضعف الداخلية  وضبابية الرؤية والمواقف ... ؛  تجعلنا نفكر الف مرة قبل الاقدام على الخطوات العملية او التصريحات النظرية او القرارات الحكومية او الشجب والاستنكار او التأييد والاستنفار او الوقوف مع هذا التيار ضد ذلك الحزب او مساندة تلك الحركة على حساب تلك الجماعة , فنحن اليوم أمام معادلة صعبة للغاية  ومعمعة لا تنتهي وكأنها  نفق مظلم ؛ نعم كلنا يعرف مقدار الضغوط الدولية والتدخلات الاقليمية والمؤامرات الخارجية وهشاشة الاوضاع الداخلية وتكالب الاعداء وتفاقم الهموم والمشاكل والمصاعب العراقية ... ؛ مما قد يضطر ساسة  الاغلبية الاصيلة الى سلوك احدى السيناريوهات الاتية : الاول :  اتباع سياسة فن الممكن , والعمل على تقديم اقل قدر من التنازلات للأجانب والغرباء مقابل الحصول على اكبر قدر من الحقوق والامتيازات ؛ وهذا الامر لا يتقنه سوى الزعماء الوطنيين الحكماء والساسة العراقيين الاكفاء والمجاهدين والمناضلين النبلاء من الذين يعملون جاهدين على بقاء الحكم العادل والديمقراطي بيد  الأغلبية العراقية الاصيلة ويرفضون العودة لمربع الحكم الشمولي الغاشم  لأبناء الفئة الهجينة من الغرباء والدخلاء او الاقليات او الدكتاتوريات   ... ؛  الثاني :  الهرولة نحو غرف القرار الدولي والاقليمي والارتماء في احضان الاجانب والغرباء وتنفيذ اوامرهم بكل دقة ؛  وهؤلاء اشبه بمدراء الدوائر الذين وظيفتهم تقتصر على تنفيذ الاوامر العليا من دون التدقيق فيها او نقدها او مراجعتها فضلا عن رسم سياساتها , فهم كبيادق الشطرنج ولو دققنا النظر في حقيقة هؤلاء وماهية هذه العلاقة لتوصلنا الى الحكم عليهم بالخيانة والتبعية والذيلية ولعرفنا ان هذه العلاقة مجرد عمالة لا غير , وان غلفت بالشعارات السياسية او الانسانية او القومية او الدينية او المذهبية ؛ نعم قد يختلف ولاء هؤلاء للخارج و تعلقهم بالأجانب والغرباء شدة وقوة او ضعفا  وفتورا حسب الشخصيات وتوجهاتها السياسية والثقافية والفكرية والدينية ؛ فالبعض لديه استعداد لحرق البلاد ومن فيها والبعض الاخر لا يعترض على تدخلات الاجانب والغرباء في الشؤون الداخلية او نهبهم للثروات الوطنية الا انه يطالبهم ببعض الفتات للشعب ... ؛ والبعض الثالث : يخبط خبط عشواء لا يميز بين الهر والبر ولا يعرف الاصدقاء من الاعداء , فهو كحاطب ليل , كل يوم هو في شأن , لا يقر له قرار , يتحول بين الفينة والاخرى من حال الى حال , ويسير على غير هدى ولا تخطيط استراتيجي ومن دون رؤية سياسية واضحة المعالم   , وهذا البعض يجري علينا التجارب وكأننا فئران مختبرات ولسنا مواطنين ( مرة تصيب ومرة تخيب )  فهو كمن يجرب الحجامة برؤوس اليتامى  , وهؤلاء قد تجدهم في الصباح مع الشرق وفي المساء مع الغرب وهكذا دواليك , وقد يقفون بنصف الطريق احيانا  (  مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ   ) , و حتى يتعلم هؤلاء فنون السياسة واسرار التفاوض ويتقنون اليات الحكم والسلطة (  جيب ليل واخذ عتابة  ) نحتاج الى وقت طويل ... الخ ... ؛ وقد جلست في احدى المرات مع احدى الشخصيات السياسية التي جاءت الى العراق من الخارج بعد عام 2003 , وكان محور حديثنا يدور حول نجاح العملية السياسية وتطور المجتمع ودفع عجلة التنمية نحو الامام , وحلحلة الازمات ومعالجة الاخطاء والمشكلات بواسطة ( جزء عم من القران الكريم ونهج البلاغة وحسب ) ...!!

ولا غرو في ذلك , فالإنسان ابن بيئته كما ان التلميذ خريج مدرسته ؛ فالمعضلة الكبرى والعقبة الكأداء والتي لم يجد لها العراقيون حلا منذ قرون طويلة ؛ هي الاتفاق الشعبي والنخبوي  على نظرية سياسية  وطنية واضحة المعالم من خلال تطبيقها على ارض الواقع ؛  يحكم العراق وتدار شؤونه  ؛ و تعمل على إرساء نظام سياسي ثابت وراسخ  يحافظ على وحدة الوطن وكرامة المواطن  ويعمل على حل الصراعات الداخلية والاختلافات والخلافات  الوطنية بالسلم والحوار والحكمة والمفاوضات المنتجة ؛ ويقوم بتوجيه قواه وموارده البشرية للعمل والانجاز الوطني و الخلق والإبداع في كافة المجالات والتخصصات ؛ ويحرص على حماية حقوق الانسان وسلامة المواطن ... ؛ وبسبب غياب هكذا نظرية ايجابية  وتغييب هكذا نظام عادل وحكيم  ؛ ضيع اسلافنا واباءنا وضيعنا نحن , كل هذه القرون المنصرمة والعقود الطويلة - ولاسيما بعد انبثاق الدولة العراقية المعاصرة عام 1921-   في الحروب الخارجية  ومعارك الوكالة والنيابة الخاسرة , والثورات والاضطرابات الداخلية والازمات والانتكاسات المحلية ؛ فضلا عن انسلاخ الاراضي الوطنية الشاسعة لصالح دول الجوار ؛  مما اسفر عن اصابتنا بالعقم السياسي والحضاري وتأخرنا عن ركب التطور والازدهار العالمي .

ومن اكثر الانظمة السياسية المنكوسة المعاصرة  ظلما وفسادا وانحرافا وجورا ؛ النظام البعثي الصدامي الهجين والذي فعل الافاعيل وارتكب الجرائم والمجازر وانتهك الحرمات والمقدسات , واذاق العراقيون حر الحديد والنار , وسقاهم من كأس الذل و العار , وسخرهم كالعبيد وخاض بهم معارك الوكالة الجهنمية وحروب النيابة الخاسرة , وعذبهم بأشد الات  التعذيب وغيبهم في ظلمات الزناين والمعتقلات الرهيبة , وعاقبهم بالجوع والاقصاء والتهميش والحرمان والعوز والفاقة ... ؛ وقتل رجالهم ويتم اطفالهم ورمل نسائهم وشرد عوائلهم وعشائرهم , ودمر قراهم وديارهم , وجفف مائهم واهوارهم ... الخ  ؛ عندها ضج العراقيون بالدعاء والتضرع الى الله في الليل والنهار , و ( صاح الناس الغوث ) حتى وصل الامر ببعض العراقيين بل الكثير منهم من اطلاق المقولة الشهيرة وقتذاك : (( خلي يحكمنا شارون الاسرائيلي ولا صدام التكريتي )) لان صبر الشعب قد نفذ , وباءت كل ثوراته وحركاته وانتفاضاته وانتقاداته وانشطته السياسية المعارضة وعملياته الجهادية بالفشل , اذ لم تستطع اغتيال رأس النظام العفن الذي كان يختبئ في قصوره المحصنة كالجرذ , الا ان دماء الشهداء الوطنيين والضحايا العراقيين قد اصبحت حديث الغربيين بل الناس اجمعين , فقد فاحت الرائحة النتنة لإرهاب البعث واجرام صدام , وسارت بقصص جرائمه ومجازره الركبان , واضحى حديث الساعة , مما شكل ضغطا نخبويا وشعبيا وسياسيا واعلاميا على الحكومات الغربية التي جاءت بنظام البعث وساندته و وقفت معه ؛ لاسيما وان المعارضة الوطنية والجاليات العراقية  والشخصيات السياسية في الخارج ؛ فضحت النظام ونشرت بين الناس مثالبه ومساوئه وحقيقته الدموية .

وبعد كل تلك المقدمات عقدت الولايات المتحدة والدول الغربية العزم على ازالة النظام البعثي الاجرامي الخطير والمتهم بشتى جرائم الحرب والابادة والتطهير العرقي والطائفي ؛ فضلا عن سجله الاسود والحافل بالانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان , الا انهم واجهوا مشكلة كبيرة كما واجهها الانكليز من قبل عندما اسقطوا الحكومة العثمانية الطائفية الغاشمة في العراق عام 1920 ؛ الا وهي عدم استجابة الشيعة وتقبلهم للأمر , ومعارضة الاغلبية العراقية الاصيلة للتعاون مع القوى الدولية الكبرى ؛ انطلاقا من مرتكزات ثقافية تاريخية وعقائد دينية مذهبية راسخة في العقلية الشيعية بصورة عامة والعراقية منها على وجه الخصوص ؛ فالبعض منهم : يحرم العمل في السياسة مطلقا ويؤمن بالرؤى والروايات الدينية التي تقول : (( كل راية ترفع او حكومة تقام قبل ظهور المهدي ؛ تعتبر راية ظلال وحكومة باطلة  )) وهؤلاء ينتظرون المهدي ولا يؤمنون بأية حكومة سواه حتى وان كانت حكومة عادلة , وعندما يتعاملون مع هذه الحكومة او تلك من باب الاضطرار والاكراه وليس من باب الاقتناع والتسليم بالنظام السياسي الديمقراطي او الاسلامي او غيرهما ... الخ ؛ والبعض الثاني : يؤمن بالقيادة الدينية والحكومة المذهبية فقط لا غير , حتى وان كانت تلك الحكومة في بلد اخر , وفي حال تعارض مصالح تلك الحكومة المذهبية مع مصالح طائفته المذهبية فضلا عن بلده ؛ قدم مصلحة الحكومة المذهبية الخارجية على مصالحه المذهبية القومية والعرقية ومصالح وطنه ؛ بل قد يحارب وطنه وابناء جلدته ان اقتضى الامر ذلك ؛ بحجة اتباع الشريعة او دعم الشيعة , والعجيب ان هؤلاء يضعون رؤوسهم في الرمال كالنعام عندما يطلب منهم الناس ترشيح قيادة دينية وطنية او مساندة الحكومة المذهبية المحلية او الدفاع عن المذهب في العراق ونصرة الاغلبية الاصيلة فيه وتحقيق امالها واهدافها وتطلعاتها  ...!!

والثالث : لا يعرف ماذا يريد , ولا يميز بين الهر والبر , ولسان حاله يقول : ((  ظلمه والدليل الله ) وهؤلاء كثر بسبب سياسات التجهيل وتغييب الوعي المستمرة والطويلة والتي كانت تستهدفهم على الدوام ؛ والبعض الرابع : عبيد الدينار والدرهم لا هم لهم سوى الاستيلاء على الثروات والتمتع بالامتيازات واكتناز المليارات ولو على حساب الكرامة والعزة والوطنية والحمية المذهبية والغيرة العراقية , لذا تراهم في بعض الاحيان عملاء لأكثر من جهة وفي نفس الوقت , بينما يتنقل البعض الاخر منهم بين السفارات واجهزة المخابرات كالمومس التي تنتقل من حضن الى اخر ... ؛ والبعض الخامس : لا يثبت على أمر , فكل يوم هو في شأن ؛ ففي الفجر كان قوميا وعند الضحى صار بعثيا وفي الظهيرة تحول الى الشيوعية وفي المساء رفع لواء الليبرالية ... وهكذا , متعدد التحولات ومتقلب الاهواء ويعيش بأكثر من وجه , والبعض السادس ولعله الاكثر : هؤلاء خارج الزمان والمكان والتاريخ , مجرد اصفار تكتمل بها الاعداد لا قيمة حقيقية لها , فهم لا يميزون بين الاعداء والاصدقاء , وكل الرياح لديهم سواء , ولسان حالهم يقول : (( الياخذ امي يصير عمي  )) وهذه احوال من يعيش بلا هوية اصيلة  ويحيى بلا هدف سياسي سامي  ... ؛ اما البعض السابع وهم كثر ايضا : وهم اتباع المرجعية الدينية في النجف الاشرف وهؤلاء لا قول لهم ولا رأي ؛ فالرأي رأي المرجع والقول قول الفقيه فحسب , وهم مجرد اتباع ينفذون ما يطلب منهم من دون اعتراض ولا نقاش , وبما ان المرجعية في العقود الاخيرة تحولت الى القوميات الايرانية بشكل صريح و واضح , اتهمت شيعة العراق بأنهم لا حول ولا قوة , وهم مجرد بيادق بيد المرجع الايراني , وقد شخص الانكليز هذه الظاهرة منذ مطلع القرن العشرين ويعتبر هذا السبب من اهم الاسباب التي حرمت الاغلبية العراقية من الحكم او المشاركة الفعلية فيه , ولا يزال شيعة العراق يدفعون ضريبة هذا الارتباط الديني مع الايرانيين , بينما يعود هذا الارتباط  بالنفع على الايرانيين على مر الازمان ... ؛ ولا نستطيع الاستطراد اكثر فالساحة العراقية فضلا عن الاغلبية الاصيلة مليئة بالفئات والدعوات والحركات والشخصيات المتنافرة والطوباوية  والفنتازية والعجيبة والغريبة ؛ والتي لا تمت بأية صلة للهوية العراقية الاصيلة او الحضارة العالمية المعاصرة ؛ بل والاعجب انها اصبحت ارضية خصبة لتفريخ تلك الدعوات الظلامية والرؤى المنكوسة والجماعات الماضوية البائسة ؛ فتارة حركة القربان وجماعة الطليان , واخرى جماعة اليماني والامام الرباني ... الخ ؛ وقد ( احتار الامريكان والغرب والاعداء والاصدقاء بنا ) فالوضع كما ترون ؛ حيص بيص , وهرج مرج , وكما يقول المثل الشعبي : ((  ما تعرف رجلها من حماها   )) وان كنا نعلم علم اليقين ان هذه الدعوات تتزامن مع انبثاق الحكومات الظالمة او الاحتلالات الاجنبية والتدخلات الدولية ؛ وقد رصد هذه الظاهرة الدكتور علي شريعتي ؛ اذ قال : كلما تعرضت ايران لتهديدات خارجية ظهرت على السطح اكثر من 40 دعوة دينية ...!! 

صحيح ان الاغلبية والامة العراقية تمتلك ثروات هائلة وخيرات طائلة ؛  الا انها تعيش على وقع التجاذبات والمعارك والمزايدات والتناحر السياسي المتواتر وبلا هوادة، والصراعات القديمة والعنصريات التاريخية والنقاشات والمجادلات العقيمة والعصبيات المناطقية والعشائرية والقبلية والعرقية والدينية ؛ مما ولد واقعا سياسيا متشرذما وضعيفا وهشا , فالدولة التي تعاني من كل تلك الامور انفة الذكر تعتبر دولة فاشلة وضعيفة بكل المقاييس حتى لو كانت تمتلك كل ثروات الكرة الأرضية في أراضيها.

وان استمرارية تصدع البيت الداخلي الشيعي  والتكلس الايدلوجي الحزبي  , وارتفاع وتيرة الصراعات والمناكفات والمزايدات والتناقضات الحادة بين قوى الاغلبية السياسية , و تراكم الإخفاقات السياسية وتكرر فشل التوافقات والتشبث بالتجاذبات والرفض المتبادل وإيثار السلبية وتضييق الخناق على الخصم رغم تربص الاعداء بالأغلبية والتجربة الديمقراطية , يؤدي عاجلا ام اجلا الى سقوط التجربة الديمقراطية وافشال العملية السياسية وانقضاض الاعداء من الداخل والخارج على العراقيين الاصلاء , فالخاسر الاول والاخير هم ابناء الأغلبية العراقية الاصيلة لا غير . 

وعليه لابد لجماهير الاغلبية والنخبة الشيعية الواعية من العمل الجاد على حماية الاغلبية والامة العراقية والوطن من كل تلك الاخطار والتصدي بحزم لمخططات الاعداء ؛ من خلال الاتفاق الشعبي والنخبوي وتماسك ابناء الاغلبية وتوحدهم ؛ والتفاف الجميع حول مشروع وطني واضح الأهداف، والمهام فيه موزعة كما يجب ، مما يؤدي الى التلاحم الوطني والاستقرار السياسي فيما بعد , والنهوض بالوطن وتجديد دماء العملية السياسية بين الفينة والاخرى .