للسياسة مقتضياتها وللظروف الداخلية والخارجية سطوتها , وعليه اصبح العمل بمبدأ : ( السياسة فن الممكن ) متبعا لدى اغلب الحكومات ومنهجا لكل الساسة في العالم , الا ان الكلام في التفاصيل , وكما تقول الحكمة : ( الشيطان يكمن في التفاصيل ) ؛ وقد اتهمني البعض بتبييض صفحة البعض من الفاسدين والمخربين والفاشلين , او القاء طوق النجاة اليهم ؛ من خلال الاستشهاد بما جاء في هذه المقالة و غيرها لاسيما المقالة الثالثة من هذه السلسة , وعندها تنتفخ أوداجه , ويعتريه الغرور والخيلاء , ويتشدق بالقوالب الجاهزة والتي لا يفقه مضمون بعضها احيانا , من قبيل : (( السياسة فن الممكن ؛ او ليس بالإمكان افضل مما كان , او هذا الموجود ... الخ )) ولأمثال هؤلاء ولإزالة الالتباس اقول : خلف هذه المقولات والكثير من الشعارات الانسانية والوطنية و السياسية والدينية قد يختبئ أكابر الخونة والعملاء والفاسدين والمخربين و أكثر الفاشلين والتافهين والمتملقين والمنافقين ؛ وعليه لا يصح الاحتجاج بمبدأ ( السياسة فن الممكن ) لكل من هب ودب من سقط المتاع وحثالة الاغلبية والامة العراقية ؛ وكذلك لا يجوز التفريط بالحقوق العراقية والثروات والمقدرات الوطنية بسبب ومن دون سبب وجيه ( كما يقول المصريون : عمال على بطال ) بذريعة ( السياسة فن الممكن ) .
فالتوازن بين القيم والمثل الوطنية السامية والرؤى والافكار والنظريات السياسية والدينية وغيرها واغراءات السلطة والنفوذ والعلاقات من سمات الشخصيات السوية والساسة الناجحين , وتقدير الامكانيات والمقدرات والطاقات الداخلية بصورة موضوعية وصادقة وحقيقية , ومقارنتها بالضغوط والتحديات الخارجية وامكانيات الاعداء الواقعية , ومعرفة الفوارق والتباين بينهما والخروج بحلول ناجعة وتسويات مرضية ؛ من صفات الساسة الاكفاء والزعماء الحكماء ... ؛ نعم لمثل هكذا ساسة ماهرين وهكذا زعماء وطنيين ؛ الحق في تقييم الاوضاع الداخلية والخارجية , وتشخيص الامكانيات والطاقات الوطنية والتحديات والضغوط الدولية , ثم العمل بمبدأ ( السياسة فن الممكن ) وتقديم التنازلات او عقد الصفقات او ابرام الاتفاقيات .
وعليه هذا الكلام لا يشمل الفاسدين والمخربين والعملاء والخونة والساسة الفاشلين , فالسياسي الذي لا يؤتمن على دولار , كيف لنا ان نسلطه على ثروات الوطن , والمسؤول الدوني الذي يكره اقرب الناس اليه , كيف لنا ان نسلمه شؤون المواطن , فأمثال هؤلاء لا يؤتمنون بإجراء المفاوضات الخارجية او عقد الاتفاقيات الدولية , ولعل تجارب العراق والعراقيين مع الامعات والخونة والفاشلين في تفاوضهم مع الكويت وغيرها , وكيف انهم فرطوا بحقوق الوطن ومستقبل المواطن ؛ من اكبر الشواهد على ذلك .
فاذا كانت التنازلات او المعاهدات او الاتفاقيات تفضي الى منفعة الامة العراقية والبلاد او تمكين الاغلبية الوطنية الغيورة من الحكم ؛ فبها ونعمت ؛ اما اذا لم تستثمر تلك الاتفاقيات لصالح الاغلبية والامة العراقية ولم تخرجنا من عنق الزجاجة ولم تغير واقعنا المعقد ولم تقلب المعادلة بحيث تقلل نسبة الاعداء وترفع معدلات الاصدقاء والحلفاء ... ؛ وبقى الوضع كما هو عليه او انساق نحو واقع أكثر تعقيدًا وتهديدا وبؤسا وتخلفا ؛ فلا خير بمثل هكذا ساسة وهكذا سياسة ؛ وصدق الشاعر عندما قال :
فإمّا حياة تسرّ الصديق * * * وإمّا مماتٌ يغيظ العدى
ونفسُ الشريف لها غايتان * * * ورود المنايا ونيلُ المنى
وما العيشُ؟ لاعشتُ إن لم أكن * مخوف الجناب حرام الحمى
وعليه يصح الاحتجاج بمبدأ ( السياسة فن الممكن ) اذا كان السياسي محنكا حكيما ذكيا وطنيا محاورا ومفاوضا من الطراز الاول , اما اذا كان من شراذم الاغبياء والحمقى والعملاء او من انصاف الساسة والمتعلمين او شلة المرتزقة والنفعيين , فأمثال هؤلاء لا ينبغي لنا تصحيح قراراتهم الكارثية وخطواتهم التخريبية بحجة ان السياسة فن الممكن .