مدخل: إنّ أدقّ المشاعر في أدق التفاصيل

في القاعات الدراسية تدافع بين الرفق والرغبة ينطوي على تلك المعاناة التي لم يعالجها الطالب والأستاذ، فالطالب يرى أن أستاذه لا ينظر له بعين الرفق والأستاذ يظن أن الطالب لا يدرس بعين الرغبة، واتساع الهوة بين طرفي المعاناة التعليمية يؤدي إلى كسل الأستاذ وانصراف الطالب وقسوة المجتمع، وليس في كل ذلك خير.

إن الرحمة والرفق خصيصة نفسية تأتي من إبصار الأشياء في صورتها الحقيقية، وإدراك سياقاتها الطبيعية، واحترام الجهود المبذولة أيًّا كان مقدارها.

ثم إن الرغبة والاجتهاد دافعان يشيران إلى النقص لا الكمال، فكل مجتهد راغب مدرك لنقص فيه، وهو باجتهاده وتوليد الرغبة الذاتية يحمل وقود مشوار النجاح بين جناحيه، ويتعامل مع أستاذه عبر عدسة مضيئة تزيد وضوح المستقبل، وتضيء الطريق إلى أهدافه.

وبما أن الرفق والرغبة طرفان للعملية التعليمية فإنه لا يكفي أن نبحث عن رفق مشوه ينعم به الأستاذ على طلابه، أو أن ننفخ في رغبة طالب انقطع وقودها، فأصبح معاق الأدوات، ملتوي الطرق، منهار الكيان.

لابد أنَّ ندرك أن الرفق بالطالب والرغبة بالأستاذ جناحا التعليم، وكل منهما يكتمل بالآخر فلا رفق عند انعدام الرغبة ولا رغبة عند انعدام الرفق، والخير أن تزال الغشاوة عن الأبصار، وينظر الأستاذ إلى الطالب نظر الوالد في ولده، وعلى الطرف الآخر يرى الطالب في أستاذه رؤية المجتهد لمستقبله، وسرُّ ذلك كله في الابتسامة! فليس منطقيًا أن يدلف الأستاذ لمحاضرته كالمقاتل مندفعا نحو المعركة، وليس من الحكمة أن يستقر الطالب على كرسيه استقرار المسافر على ظهر سفينة في ليلة ظلماء عاصفة.

ولا ينبغي للأستاذ أن يجعل من محاضراته معرفة جامدة لا روح فيها كالقرص الخاص بالكمبيوتر؛ لأنَّ المعرفة اكتشاف ما يسعدك، ويشرق على نفسك بالأمل والعطاء، وأول ذلك وآخره في تلك الابتسامة التي تغيث بها أرواح الذين اشرأبت أعناقهم إلى مقامك، وأصغت آذانهم إلى كلماتك، وتركوا ما هم فيه إلى ما هو عندك، فإنَّ ذلك جدير بالتبجيل والتقدير.

إنَّ البقاء على طرفي نقيضٍ في القاعة الدراسية يعني أنَّ كلا من الأستاذ والطالب قد أضاع جهة الشمال في البوصلة، وابتعد بشكل مخيفٍ عن إدراك الحياة الطبيعية للأشياء، وسينتهي بهما الأمر إلى انطفاء المنارة، والتخبط في متاهات التضخيم، والقياس المغالط، وعندها تصبح الأفعال تحت الملاحظة الشديدة، وفي سياق التفسير المتشنج.

إنَّ الحياة الطبيعية تقضي بأنّ الإنسان عائدٌ نحو الكمال عندما يضع يده على فكرة الأمل، وينطلق تحت نور الابتسامة، ويرى في الآخرين حياة الإنسان بكل تفاصيلها الرائعة.

مخرج: المعرفة جزء من الحياة، والحياة في التوازن.