سائقو "التكتك" ينتمون الى أمة اصيلة مغلوبة على امرها , فهم تعبير عن محنة كبيرة و حكاية طويلة من الألم والعذاب والضنك والبؤس والبطالة والحرمان والتهميش والاقصاء والافقار ؛ وهم نتيجة طبيعية لكل تلك المقدمات التاريخية الباطلة والظالمة والتي جعلتهم يكافحون من أجل العيش الكريم واحقاق الحقوق ؛ نعم قد تغير حالهم تغييرا كبيرا وملحوظا مقارنة بأيام الزمن البعثي الاغبر والسنوات العجاف لحكم الطغمة التكريتية الحاقدة , الا ان هذه التغييرات الايجابية رافقتها الكثير من الفوضى والسلبيات ولم تكن بمستوى الطموح ولم تلبي تطلعات وامال الامة والاغلبية العراقية , اذ فشلت الحكومات العراقية بعد عام 2003 فشلا ذريعا في معالجة المشاكل الاقتصادية واستيعاب الطاقات الشبابية وتوفير فرص عمل كريمة للمواطنين كافة ؛ حتى فرص التعيين التي توفرت للعراقيين شابها الكثير من الاشكاليات والملاحظات ومنها : حصول الكرد وبعض المناطق السنية على حصة الاسد من تلك التعيينات بينما حرمت الاغلبية لاسيما ابناء المحافظات الجنوبية من تلك الفرص ؛ والذين حصلوا على التعيين منهم ؛ اما من خلال دفع الرشى او الانتماء للأحزاب والحركات السياسية ؛ بحيث صار الحصول على وظيفة من دون سلوك هذين الطريقين من العجائب ؛ ومن الطبيعي ان يكون اصحاب التكتك قصة اخرى من قصص الوجع العراقي المزمن , والتردي المستمر لأحوال الشعب الذي أفقر كثيرا حتى بعد عام 2003 ؛ نتيجة للاحتلال الامريكي والتدخل الاجنبي الذي سلط فئات وشراذم من الفاسدين والفاشلين لا هم لهم سوى جمع الثروات واكتناز المليارات على حساب الاغلبية والامة العراقية ؛ والتي نهبت ثرواتها وسرقت خيراتها وضاعت مقدراتها في صفقات الفساد والمشاريع الوهمية وعمليات الفساد وغسيل الاموال الطائلة .
"التكتك" ظاهرة جديدة انتشرت بكثافة خلال السنوات المنصرمة في مختلف المناطق العراقية مع الأزمة المعيشية والتحديات الاقتصادية التي ألقت بأعبائها على المواطن، علما ان عجلة التكتك تعتمد عادة في الدول النامية ذات الكثافة السكانية العالية ... ؛ أما في العراق ، فانتشارها خير دليل إلى ما آلت إليه الأمور بالنسبة للمواطن الذي يبحث عن أي فرصة يمكن أن تخفف من الأعباء التي أثقلت كاهله، لاسيما وان البطالة طالت شريحة واسعة من العراقيين.
الحكومات الحكيمة والدول المتطورة لا تخضع فيها القرارات او الاجراءات او المشاريع او صفقات التصدير والاستيراد ... الخ ؛ للصدفة او للتجربة او لمزاج المسؤول الفلاني , اذ تشكل تلك الحكومات والدول غرف للاستشارة والمناقشة والتي يشرف عليها امهر الاساتذة واذكى المختصين واشهر الخبراء ؛ وما ينتج عن هذه الغرف والاجتماعات والمداولات تعمل به الحكومة , فالعاقل كما قيل قديما لا يخطئ ولا يعتذر , ففي جميع بلدان العالم المتحضرة يبدأ أي مشروع بتخطيط وضوابط ويوظف لخدمة الصالح العام ؛ الا ان الاوضاع في دول العالم الثالث تسير بعكس ما ذكرناه انفا , اذ ان الحكومات فيها تخبط خبط عشواء , والمسؤول فيها كحاطب ليل ؛ لا يميز بين الهر و البر , و ( يتعلم الحجامة بروس اليتامه ) كما يقول المثل الشعبي , وعليه يصبح المواطن مختبرا لتجارب الساسة الفاشلين والموظفين الفاسدين او ميدانا لتطبيق الاجندات الخارجية المشبوهة كالفوضى الخلاقة وحروب الوكالة واخواتها ؛ وقد حاولت دولة مصر علاج مشكلة التكتك من خلال تشكيل لجنة فنية مرتبطة بعدة وزارات معنية , ، وتضم عدداً من المتخصصين في الأمر , ، لوضع الآليات التنفيذية لمشروع إحلال سيارات صغيرة اقتصادية رخيصة بديلة لمركبة "التكتك"... ؛ وقد أكد المسؤولون أن الخطة تشمل إلغاء "التوكتوك" بشكل نهائي واستبداله بسيارات الركوب الصغيرة، بما يعيد إلى شوارع مصر مظهرها الحضاري ... ؛ وباءت اغلب محاولات الحكومة المصرية بالفشل , إذ أوقفت الحكومة المصرية عام 2018 ؛ إصدار تراخيص جديدة لمركبة "التوكتوك" ولم يُكتب لها النجاح، لتحاول مرة ثانية بعد أقل من عام، عندما أعلنت في سبتمبر (أيلول) 2019 عن نيتها البدء في برنامج لاستبدال وإحلال "التوكتوك" بسيارات "الميني فان" التي تعمل بالغاز الطبيعي، إلا أن أزمة كورونا وما تبعها من آثار اقتصادية وتغير في الأولويات، كلها أرجأت الأمر وللمرة الثانية أيضاً لم يُكتب لها النجاح... ؛ بينما كان الاولى بها دراسة قضية عجلة التكتك بكل تفاصيلها قبل الشروع في استيرادها ؛ إذ تشير الإحصاءات إلى بلوغ عدد تلك المركبات نحو ثلاثة ملايين ومن بين تلك المركبات ؛ توجد 255 ألف مركبة مرخصة فقط في مصر ...!!
والعراق ليس افضل حالا من مصر ؛ فقد اريد له ان يعيش التخبط والفوضى بكل اشكالها , فالمسؤول والموظف ورجل الامن يغط في نوم عميق ؛ عندما يتم استيراد هذه العجلات او الادوية الفاسدة او الشروع بالمشاريع الوهمية والفاشلة ... الخ , وكأن الامر لا يعنيه , الا انه يستيقظ من غفلته , بعد حدوث الظاهرة وظهور المشكلة واستفحالها فيما بعد , وليته يعالجها بأقل الخسائر الممكنة , اذ يزيد السوء سوءا ويصب الزيت على النار , ويعالج الخطأ بما هو اشنع منه , ويصحح المشكلة بمشكلة اكبر منها , وهكذا تستمر الازمات وتتوالى الانتكاسات وتتكاثر المشكلات .
وقد رأيت في احدى المرات احد رجال الامن ( الاتحادية ) وهو يضرب ( بالدونكي) التكتك بقوة مما تسبب بكسر زجاجها الامامي والحاق ضرر كبير في شكلها وهيكلها , مما دفع الشاب الى التصادم معه , وفي هذه الاثناء تجمع مجموعة من اصحاب ( التكاتك ) من زملاء ورفاق سائق التكتك الذي تشاجر مع رجل الامن الذي اعتدى على العجلة والحق الضرر بها ؛ وكذلك تجمع افراد الاتحادية , وحصلت مشاجرة كبيرة و اطلق احد افراد الشرطة الاتحادية النار , و بسبب تصرف المنتسب غير المسؤول ؛ حدثت مشكلة كبيرة واصيب بعض الشباب بجروح بليغة وتضررت بعض العجلات ... الخ .
وطالما اشتكى اصحاب ( التكاتك ) من فوضى الاجتهادات لرجال الامن والمرور , وقسوة التعامل معهم , وقد اشتكى احدهم ومن على شاشات احدى الفضائيات العراقية , ان عجلة التكتك تتعرض للضرب من قبل الشرطة لمجرد خروجها للشارع العام في بعض المناطق , وبعض الشرطة لا يسمح ( للتكتك ) التي تأتي من مدينة الشعلة من الدخول الى مدينة الحرية مثلا وهكذا , وعندما طالب اصحاب ( التكاتك ) بترقيم عجلاتهم ؛ هروبا من مضايقات الشرطة وابتزاز رجال المرور ... , وانتظر اصحاب ( التكاتك ) طويلا , وهم يعيشون القلق والترقب , فالبعض يقول سوف تصادر العجلات ويتم سحقها , والبعض الاخر يقول لا يسمح لها الا في بعض المناطق وهكذا ؛ الى ان اقرت الحكومة قرار الترقيم , وهرع اصحاب ( التكاتك ) الى دوائر المرور التي طردتهم بحجة عدم وصول الكتاب الرسمي من الحكومة الى دوائهم ... , واستمرت مراجعات اصحاب ( التكاتك ) للدوائر على الرغم من المماطلات والتأجيلات , ثم طلبوا منهم تأييد من المجلس البلدي والاوراق الرسمية , وقد نفذ اصحاب (التكاتك ) كل الشروط الحكومية ودفعوا كافة الرسوم والتكاليف , بالإضافة الى طول المراجعة وما يترتب عليها من تبديد الاموال والجهود والاوقات ... , وبعدها ايضا تعرضوا للمضايقات بحجة اجازة السوق , ثم بدأت رحلة اجازة السوق المضنية وهكذا يبقى العراقي يدور بنفس المتاهة او اريد له ان يكون هكذا ...!!
ان اعتبار التكتك او الدراجة او غيرهما سبب لكل الخروقات الامنية او المخالفات القانونية ؛ هروب نحو الامام , وتنصل للاجهزة الامنية والدوائر الحكومية من مسؤولياتها في حفظ الامن وفرض النظام والقانون ؛ ومحاربة ( ابو العربانة الحمال ) او مطاردة ( ابو الستوته البائس ) او مضايقة ( سايق التكتك ) لا يحول الجحيم الى جنة , ولا يغير الاحوال , فالأمر اكبر من ذلك بكثير ؛ بل لعل من اهم اسباب الانتكاسات والازمات والخروقات وعمليات الاجرام والارهاب والفساد ؛ وجود العناصر المخربة والفاسدة والعميلة في دوائر الدولة والاجهزة الامنية ... ؛ بل ذهب البعض الى ان سبب دمار العراق هم اهل الجكسارات والمظللات وليسوا اصحاب التكاتك والدراجات ... ؛ بينما عزا الكثيرون ان اسباب الخراب الحالي واللانظام لا يتعلق بالجسكارات او التكاتك او الدراجات ؛ بل يرتبط ارتباطا وثيقا بالأزمة الاخلاقية الحادة وانحدار الذوق العام وفساد وعمالة وخيانة الساسة والمسؤولين والموظفين .